اخر الاخبار

من يتصفح كتاب مباحثات الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مع المفاوض البريطاني هدريج، يدرك حقيقة تأثير شركات النفط البريطانية، وفي مقدمتها شركة I.P.C، على قرارات العراق السياسية آنذاك. وكان من نتائج الخلاف الحاد مع ممثل تلك الشركات أن أصدرت حكومة ثورة 14 تموز قانونًا تاريخيًا هو القانون رقم 80 لسنة 1961، الذي تم بموجبه تحديد مناطق استخراج النفط للشركات الأجنبية. وقد اعتبر هذا القرار أحد الأسباب المباشرة لإعدام الزعيم في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963.

حين عرض عبد الكريم قاسم القانون على مجلس الوزراء للتوقيع، قال عبارته الشهيرة: "وقّعوا على قانون إعدامكم"، في إشارة إلى تداعيات القرار السياسية والأمنية.

رغم ذلك، استمر استغلال الشركات لموارد العراق النفطية، مما أدى إلى أزمة سيولة نقدية حالت دون إمكانية دفع رواتب موظفي الدولة لعدة أشهر خلال عام 1967. وقد كنت شاهدًا على تلك المرحلة الاقتصادية المتعثرة، إذ اضطُر الرئيس عبد الرحمن عارف إلى الاستدانة من أجل تغطية الرواتب، وقيل حينها إن القرض جاء من جمهورية الصين الشعبية.

في هذا السياق، أصدرت الحكومة القانون رقم 97 لسنة 1967، تأكيدًا للقانون رقم 80، وكلفت بموجبه شركة النفط الوطنية العراقية بالبحث عن الأسواق وتسويق النفط، في ظل استمرار الخلاف مع الشركات الأجنبية التي كانت تصرّ على حرية الاستكشاف والاستخراج في جميع الأراضي العراقية، بينما كانت الدولة تصر على الالتزام بالمناطق المحددة بالقانون، وضرورة الحصول على موافقة الحكومة قبل أي استكشاف جديد. إضافة إلى ذلك، لم تكن الشركات تقدم عائدات منصفة لخزينة الدولة، ما جعل الحالة المالية للبلاد تتدهور.

ورداً على هذا الوضع، منح الرئيس عبد الرحمن عارف امتياز استثمار حقل شمال الحلفاية إلى شركة "إيراب" الفرنسية، ما أثار استياء الشركات الأمريكية. وفي تلك الفترة، وصل إلى بغداد وزير المالية الأمريكي الأسبق هندرسون حاملاً رسالة من الرئيس جمال عبد الناصر، يدعو فيها الرئيس عارف إلى التعاون مع الولايات المتحدة بشأن النفط والكبريت. لكن الرئيس عارف فضّل الشركات الفرنسية في استثمار النفط، والشركات البولندية في استثمار الكبريت.

وقد كانت هذه الواقعة هي "القشة التي قصمت ظهر البعير"، إذ لم تمضِ فترة طويلة حتى نُفذ انقلاب 17 تموز 1968. وتشير مصادر إلى أن الدكتور ناصر الحاني، الذي كان على علاقة وثيقة بالسفارة الأمريكية في بيروت، قام بتسليم حردان التكريتي أموالًا من الولايات المتحدة لتنفيذ الانقلاب. وبعد فترة وجيزة من نجاح الانقلاب، تم تصفية الحاني، الذي شغل منصب وزير خارجية الانقلاب لأسبوعين فقط، لتُطوى معه أسرار التآمر على شخصية وطنية مثل عبد الرحمن عارف.

وفي تصريح صحفي له من إسطنبول، قال الرئيس عبد الرحمن عارف:"إن النايف لم يكن سوى أداة حركها إغراء المال من قبل شركات النفط العاملة في العراق، والدول التي تقف وراءها، لأن السياسة النفطية التي اتبعتها حكومتي أضرت بمصالح هذه الشركات."

وأوضح أنه منح عقدًا لشركة "إيراب" الفرنسية بدلًا من الأمريكيين، وعقد اتفاقية تفاهم ومساعدة فنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة، وربطه بشركة النفط الوطنية. كما حرمت الحكومة شركة "بان أمريكان" الأمريكية من امتياز استثمار الكبريت، وقررت استثماره وطنيًا، مما دفع تلك الشركات ودولها إلى السعي لإسقاط الحكم.

ويتابع عارف قائلاً إنهم وجدوا في عبد الرزاق النايف الشخص المناسب، و"اشتروه" عبر وسطاء هما الدكتور ناصر الحاني وبشير الطالب، مؤكدًا أن هذه المعلومات "عن معرفة وليست مجرد شكوك."

لم تدم حكومة عبد الرزاق النايف سوى أسبوعين فقط. ففي 30 تموز 1968، زحفت منظمة حنين وعدد من الجنرالات نحو القصر الجمهوري. وبعد غداء ذلك اليوم (وكان من لحم الغزال)، أشهر صدام حسين مسدسه بوجه الجنرال النايف واقتاده إلى منفاه. أما الجنرال الداوود، فكان آنذاك في عمان يتفقد القطعات العسكرية العراقية المعسكرة في الأردن، بصفته وزيرًا للدفاع. وهكذا، كان ما جرى في 30 تموز انقلابًا على الانقلاب، وأدى إلى استقرار الحكم في يد حزب البعث منفردًا.

ذلك الحكم الذي سيطر عليه صدام حسين لاحقًا، وملأ كل فصوله، وصولًا إلى احتلال العراق عام 2003. والغريب أن صدام، الجنرال المزيّف، وافق لاحقًا على منح راتب تقاعدي للرئيس عبد الرحمن عارف، بعد أن شكا الأخير لضباط عراقيين من سوء حالته المعيشية.

ويبقى السؤال.. أي دور خطير لعبته شركات النفط الأجنبية في رسم مصير العراق؟ وكم انقلابًا كانت وراءه؟