اخر الاخبار

ما كان لهذه الأسطر أن ترى النور لولا شجاعة سائق القطار المناضل البطل عبد عباس المفرجي، وكرم أهالي السماوة، هكذا يصف الدكتور حكمت جميل تلك الساعات المصيرية في حياته وحياة رفاقه الآخرين. ولعل الوازع المهم خلف إصداره هذا الكتاب، كان للتوثيق أولا، ولفضح المجرمين خلف تلك الفعلة الخسيسة وانقلابهم في ٨ شباط ١٩٦٣، ولتثبيت بعض الوقائع والذكريات التي ربما ستذهب برحيل صاحبها.

يقع كتاب "رحلة قطار الموت ١٩٦٣" بحوالي ٢٤٠ صفحة من القطع الكبير وهو من إصدار دار (الصقر الأبيض) في الولايات المتحدة عام ٢٠٢٢، وللحكاية قصة. فقد نشر الدكتور كتابا احتوى ذكريات شخصية من بغداد إلى ديترويت، وتضمن فصلا تناول تجربته في قطار الموت، وجاءه اتصال من إياد المقدسي صاحب المكتبة العصرية في شارع المتنبي واقترح عليه ان يتوسع أكثر ويكتب شهادته عن هذه الحادثة، لأن المكتبة العراقية تفتقد إلى كتاب بهذا المضمون، وكل الموجود هو عبارة عن مقالات صحفية صغيرة او حديث أثناء لقاء تلفزيوني، لكن ككتاب فلا يوجد، وهذا سيكون مهما لوضعه كمرجع للباحثين مستقبلا. اقتنع الدكتور بالفكرة بعد أن استشار قسما من زملائه (الأحياء) ممن شاركوه تلك الرحلة وبدأ التحضير لها عام ٢٠٢٠ ليتوج عمله عام ٢٠٢٢ بصدور الكتاب.

تضمن الكتاب ثلاثة فصول والخاتمة، إذا احتوى الفصل الأول على تجاربه الشخصية وصولا إلى اعتناقه للفكر اليساري ونشاطه في اتحاد الطلبة حتى استقالته من العمل السياسي وتفرغه للدراسة وتخرجه من كلية الطب عام ١٩٦٢، والفصل الثاني تجربته في الاعتقال بعد انقلاب ٨ شباط ثم سجنه في سجن رقم ١ ، وفشل انتفاضة البطل حسن سريع وصولا إلى قطار الموت ومن ثم سجن نقرة السلمان وبعدها في سجن الحلة حتى إطلاق سراحه في شباط ١٩٦٥، أما الفصل الثالث فيتضمن صورا من المضايقات والاضطهاد وصولا للاتهام بالخيانة العظمى، ولعل خلف ذلك يكمن إصراره على مواقفه الوطنية وعدم الركوع أمام البعث ناهيك عن كونه طبيبا واستاذا جامعيا متمكنا من أداء عمله بكل دقة وأمانة .

من القصص التي مازالت عالقة في الذاكرة والتي يرويها بمرارة هي الإهانات والضرب والتعذيب الذي تعرض له خيرة المثقفين والأساتذة في سجون الانقلابيين وفي سجن رقم ١، وكيف أن هذه الجريمة محت كل صفة الوطنية عن حزب البعث وبقيت عالقة بسجله الإجرامي لحد سقوط حكمه المدوي في نيسان ٢٠٠٣.

وقصة هذا القطار تبدأ من حيث فشلت انتفاضة البطل نائب عريف المتطوع حسن سريع ورفاقه يوم ٣ تموز ١٩٦٣ ( وتسمى حركة حسن سريع أو حركة ٣ تموز) ، إذ أنهم فشلوا في كسر أبواب سجن رقم ١ في معسكر الرشيد حيث كانوا يعولون على إطلاق سراح نخبة من الضباط والطيارين  لقيادة الطائرات  في معسكر الرشيد والمهيأة للقضاء على الانقلابيين، لكن فشل الانتفاضة فتح الباب للأفكار الجهنمية للبعثين وقادة الحرس القومي في التخلص من هذه المجموعة من المساجين  ولأنها تشكل خطرا عليهم مستقبلا ، وكان هناك من اقترح اعدامهم كلهم ( يبلغ عددهم ما بين ٥٢٠ – ٥٢٦ سجين ما بين ضابط وطيار ومهندس وطبيب ومحام واستاذ جامعي وغيرهم) لكن أحدهم اعترض خشية هيجان الرأي العام العالمي، وجاء أحدهم بفكرة شحنهم بقطار لنقل البضائع  ( يقال إنه كان مؤلفا من  ١٦ – ٢١ قاطرة (فاركون) ،إلى مدينة السماوة ومن ثم نقلهم إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي على الحدود السعودية، وهذه الرحلة للسماوة تستغرق في العادة  (١٠ -١٢ ساعة) لكن طُلب من السائق أن يبطئ المسير  حفاظا على البضائع المنقولة من التلف ! لكي تكون الرحلة ١٤ – ١٦ ساعة في عربات حديدية موصودة وبلا فتحات هوائية، وأرضيتها مغلفة بالأسفلت الأسود وفي شهر تموز الحار جدا، أملا بأن يواجه السجناء مصيرهم المحتوم بالموت اختناقا وليس اعداما. أوكلت المهمة بالصدفة البحتة إلى السائق عبد عباس المفرجي، وكان هذا موقوفا رهن تسليم شقيقه الهارب، وحدث أن سلم شقيقه نفسه يوم ٣ تموز. فأطلق سراحه ونودي عليه لقيادة قطار الحمل فجر الرابع من تموز عام ١٩٦٣.

في بداية الرحلة التي انطلقت صباحا من المحطة العالمية ببغداد، كان الجو طيباً أو باردا، لكن مع ارتفاع الشمس واستقرارها في السماء ، بدأت درجة الحرارة بالارتفاع في القاطرات الحديدية، وصار السجناء يصرخون طالبين النجدة  و يضربون بأيديهم على جدران العربة، فانتبه قسم من الناس الذين كانوا يقفون على الجوانب، وما هي الا ساعات حتى وصل القطار إلى محطة المحاويل في الحلة، فطلب السائق من مساعده استكشاف الامر، فعاد اليه وهو يقول: إن القطار ملئ بالسجناء من أنصار عبد الكريم قاسم وليس بالبضائع، وتأكد السائق بنفسه من ذلك، حينها عقد العزيمة على عدم التوقف في أي من نقاط الاستراحة والانطلاق بأقصى سرعة ممكنة، حتى وصل محطة السماوة  موفرا ما بين ٣ – ٤ ساعات. وصل القطار بحمولته البشرية المنهكة من الحر والعطش والإعياء ونقص الهواء والأوكسجين، وفعلا قام أهالي السماوة بالواجب وقدموا الماء والطعام، فيما جرى نقل ٧ من الركاب للمستشفى نتيجة فقدانهم الوعي، على أن واحدا منهم لم يكتب له النجاة وكان ذلك هو: الشهيد الرائد يحيى نادر.

مفارقة يجب ان تُذكر: لقد كان من بين ركاب القطار ضابط صيدلي، وهو ابن السيد طالب، الشخصية المعروفة في السماوة قام بتجهيز شاحنة كبيرة محملة بالمواد الغذائية وكانت تسير خلف الحافلات التي نقلت السجناء من مركز شرطة سراي السماوة إلى سجن نقرة السلمان.

** الشهيد حسن سريع، نائب عريف مطوع في مدرسة قطع المعادن بمسكر الرشيد، من مواليد ريف السماوة من عائلة فلاحية فقيرة، انتقلت العائلة إلى منطقة عن تمر التابعة لكربلاء.  بعد ان أنهى الدراسة الابتدائية، تطوع في الجيش وانتسب إلى مدرسة قطع المعادن في معسكر الرشيد والذي أصبح أحد المدرسين فيها لاحقا.  تزوج من إحدى قريباته ولهما بنت. حكم عليه هو ورفاقه بالإعدام بعد فشل حركته. ظل صامدا ولم يهاب البعثيين ولا الموت، وكان أمينا للمبادئ التي اعتنقها، ولهذا بقي اسمه خالدا.  

** الدكتور حكمت جميل، موالد العام ١٩٣٥ في منطقة المربعة ببغداد. تخرج من كلية الطب عام ١٩٦٢، التحق كضابط احتياط بمعسكر في الناصرية، اعتقل في نيسان١٩٦٣، وسيق إلى سجن رقم ١ في معسكر الرشيد.  بعدها في قطار الموت ثم سجن نقرة السلمان حتى سجن الحلة الذي غادره في شباط ١٩٦٥.

سجن الدكتور حكمت وهو بعمر ٢٨ عاما، غادر العراق عام ١٩٩٦، وصل أميركا واستقر بها، نشر هذا الكتاب عام ٢٠٢٢، أي بعد مرور ٥٩ سنة على تلك الجريمة. 

** قطار الموت: تسمية شعبية أطلقت على قطار الحمل الذي اختاره البعثيون والحرس القومي لنقل السجناء الشيوعيين والتقدميين من سجن رقم ١ بعد فشل انتفاضة حسن سريع يوم ٣ تموز ١٩٦٣ وذلك لغرض قتلهم اختناقا. لم يكن ممكنا استخدام هذه التسمية في العراق إلا بعد العام ٢٠٠٣.

ـــــــــــ

تموز ٢٠٢٥