تحلّ علينا مناسبة عزيزة، وهي الذكرى التسعون لصدور أول صحيفة شيوعية عراقية، ألا وهي صحيفة "كفاح الشعب"، التي صدرت في 31 تموز 1935، لتكون أول صحيفة عراقية تصدر سراً، وتفتح السجل النضالي الحافل لصحافة الحزب الشيوعي العراقي، التي رافقت مسيرته النضالية المجيدة، ولعبت دوراً نضالياً بارزاً في سبيل سعادة الشعب وحرية الوطن.
لم يكن إصدار "كفاح الشعب" سوى تعبير عن حاجة الحزب الشيوعي العراقي، حديث النشأة آنذاك، إلى صحيفة مركزية ناطقة باسمه، تنشر أفكاره وسياسته وبرامجه، وتكسر احتكار الأفكار ونشر المعلومات الذي كانت تمارسه الصحافة الرسمية الحكومية، المرتهنة سياساتها بعجلة الاستعمار والاحتكار، والتي كانت تضلل جماهير الشعب بأفكارها الرجعية والعميلة.
وقد جاء إصدار "كفاح الشعب" انطلاقاً من المبدأ اللينيني الذي يؤمن بأن: "الصحيفة ليست فقط داعية جماعي ومحرض جماعي، بل هي في الوقت نفسه منظم جماعي".
وهكذا، وبالرغم من أن أعضاء الحزب وأصدقاءه، وبعض أعضاء قيادته، كانوا ينشرون مقالاتهم في العديد من الصحف الوطنية، وأحياناً بأسماء مستعارة، إلا أن إصدار صحيفة مركزية ناطقة باسم الحزب أصبح من المهام الأساسية لقيادة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، وهو ما تطلّب تذليل كمّ هائل من الصعوبات الفنية، من إيجاد المطبعة وشرائها، ثم تأمين المكان، وتوفير العاملين المؤهلين، كل ذلك ضمن متطلبات العمل السري، الذي كان يستلزم شدة اليقظة والحذر.
وقد شكّل صدور "كفاح الشعب" السرية حدثاً فريداً في تاريخ الصحافة العراقية، إذ خرقت الأعراف التقليدية، وتحدّت شرط الحصول على إجازة لإصدار صحيفة، وأرست تقاليد عمل جديدة في تاريخ الصحافة الوطنية.
ولعبت صحافة الحزب الشيوعي العراقي دوراً مؤثراً وأساسياً في كشف وفضح سياسات الحكومات العميلة المرتبطة بالاستعمار وقوى الاحتكار، وحملت تطلعات وآمال جماهير الكادحين.
وتوالى بعد "كفاح الشعب" صدور العديد من الصحف السرية والعلنية، تبعاً للظروف النضالية والسياسية التي عاشها الحزب. ففي مطلع أربعينات القرن الماضي صدرت صحيفة "الشرارة"، وبعد أن استولى مجموعة من المنشقين على مطبعة "الشرارة" السرية، أصدر الحزب صحيفة "القاعدة" سراً في كانون الثاني 1943.
وفي ظل تلك الظروف النضالية الصعبة، تمكّن الحزب من إصدار صحيفة "العصبة" بشكل علني عام 1946، ناطقة باسم "عصبة مكافحة الصهيونية في العراق"، ثم أصدر "الأساس" علنياً أيضاً عام 1948.
وكانت صحافة الحزب السرية والعلنية تواصل نضالها في نشر الوعي الوطني، والكفاح ضد الأفكار النازية والشوفينية، والمطالبة بالحريات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة والتنظيم، والدفاع عن حقوق الشعب الكردي وباقي الأقليات القومية.
وفي منتصف عام 1956، أصدر الحزب بشكل سري صحيفته ذائعة الصيت "اتحاد الشعب"، التي استمرت في الصدور سراً لمدة عامين ونصف، ولعبت دوراً نضالياً بارزاً في قيادة معركة الشعب العراقي تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، حيث تُوّج هذا النضال بانطلاق ثورة الرابع عشر من تموز 1958.
وقد استطاعت "اتحاد الشعب"، بعد الثورة، أن تصدر بشكل علني في 25 كانون الثاني 1959، ولكن لفترة محدودة. ومع إغلاقها في آب 1961، عاود الحزب إصدارها سراً تحت اسم "طريق الشعب"، وذلك ابتداءً من نهاية عام 1961.
ومن الجدير بالذكر أنه بعد انطلاق ثورة 14 تموز، وفي الأول من أيار 1959، صدرت بشكل علني صحيفة "ئازادي – الحرية"، الناطقة باللغة الكردية، وهي صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، والتي كانت قد صدرت لأول مرة بشكل سري في نيسان 1944، لتكون أول صحيفة كردية سياسية تصدر سراً. وقد جاء إصدارها منسجماً مع سياسة الحزب ومبادئه التي تؤمن بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، وتناضل من أجل إبراز تاريخه وخصائصه القومية.
وفي 16 أيلول 1973، صدرت "طريق الشعب" علناً، لكنها سرعان ما عادت للصدور سراً في ظل حكم النظام الديكتاتوري المقبور.
وطوال سنوات نضالهم المجيد، ومنذ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي، ساهم الشيوعيون العراقيون في إصدار العديد من الصحف الوطنية الديمقراطية اليسارية التي ظهرت لفترات قصيرة ثم توقفت، كما نشروا مقالاتهم في الصحف الوطنية، مستثمرين كل فرصة وظرف ملائم للنشر.
لقد كانت صحافة الحزب، السرية والعلنية، ميداناً للنضال من أجل حقوق الجماهير والأفكار التقدمية النيرة، ومدرسة لأجيال من الصحفيين والمثقفين العراقيين، الذين تعلموا على صفحاتها، وشقّوا طريقهم إلى ميدان الصحافة والأدب. كما ساهمت صحف الحزب في توسيع العمل التنظيمي، من خلال استقطاب العناصر الشابة التي رأت فيه حزباً ثورياً يناضل من أجل المطالب العادلة للشعب العراقي، فضلاً عن نضاله من أجل حقوق الشغيلة، والحقوق القومية المشروعة للقوميات، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان، والدفاع عن التنظيم النقابي، وحرية الصحافة، والحريات المدنية، وغيرها من القضايا الجوهرية.
وقدّمت صحافة الحزب، خلال مسيرتها النضالية الحافلة بالأمجاد، من أجل مستقبل أفضل لأبناء شعبنا، كوكبة خالدة من الشهداء من المناضلين والصحفيين، نذكر منهم:
محمد الشبيبي، عبد الرحيم شريف، محمد حسين أبو العيس، جمال الحيدري، نافع يونس، عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، عدنان البراك، ولا ننسى الفقيدين زكي خيري، شمران الياسري، عامر عبد الله، وغيرهم كثيرون يطول تعداد أسمائهم.
لم تكن صحافة الحزب الشيوعي العراقي، طيلة سنوات نضالها، مجرد وسيلة لإيصال سياسة الحزب وبرامجه، بل كانت ميداناً لنشر الفكر التقدمي في مختلف مجالات الحياة.
لقد كانت صحافة الحزب أمينة للمبادئ اللينينية في العمل الصحفي، حيث كتب لينين:
"لا بدّ لنا أن نشرع بالعمل بانتظام لخلق صحافة لا تسلّي وتُخدع الشعب بالتوافه والإثارة السياسية، بل تخضع قضايا الحياة اليومية الاقتصادية لحكم الشعب وتساعد على الدراسة الجادة لهذه القضايا".
وكانت جماهير الشعب تجد في صحافة الحزب آمالها وطموحاتها وهمومها، ولهذا كان انتظام صدورها يشكل أهمية كبيرة لدى جماهير الكادحين، وأعضاء وأصدقاء الحزب. ولهذا السبب، كانت صحافة الحزب السرية في فترات نضالية عديدة توزع أعداداً تفوق الصحف الرسمية العلنية.
وفي ظل الظروف الجديدة، بعد زوال النظام الديكتاتوري الشوفيني، يواصل الشيوعيون العراقيون نضالهم أوفياء لمبادئهم وتضحيات روّاد الصحافة الشيوعية في العراق، ومن أجل أن تبقى صحافة الحزب ميداناً للأفكار التقدمية، معبرة عن هموم جماهير الكادحين وطموحاتهم وآمالهم، قريبة من نبضهم، وتنادي ببناء عراق ديمقراطي جديد، فدرالي، تعددي، ينعم فيه المواطن بحياة حرة كريمة، في ظل دولة القانون، بعيداً عن كل فكر تعسفي وظلامي يصادر حق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة والآمنة.