حين تُطلّ علينا ذكرى تأسيس الصحافة الشيوعية، لا نحني الرؤوس حدادًا، بل نرفعها فخرًا واعتزازًا، ونفتح نوافذ القلب لنستقبل نسائم الوفاء لأولئك الذين لم يكتبوا التاريخ فحسب، بل نسجوه بخيوط من دم وضمير وحلم. إنها ليست ذكرى مهنية عابرة، بل وقفة عند ضفاف الكلمة المقاتلة، الكلمة التي لبست ثياب الفقراء، ومشت في الأسواق والأزقة، وجعلت من المطبعة ملجأً، ومن الورق سلاحًا، ومن الحبر حياة.
الصحافة الشيوعية في العراق لم تكن نشرة حزبية تقليدية، ولا بيانًا يعبر ضفاف اللحظة السياسية. كانت وجدانًا جماعيًا يصوغ رؤية للعدالة، ومرآةً صافية تعكس معاناة الكادحين. في زمن كانت الحقيقة فيه تُذبح على عتبات الاستبداد، كانت "طريق الشعب"، و "اتحاد الشعب"، و"القاعدة"، و"الشرارة"، و"الثقافة الجديدة" وغيرها، بمثابة خنادق نضال، فيها يحرس الكتّاب أحلام العمال والفلاحين والمعلمين والطلبة، ويؤسسون لمستقبل يليق بالناس البسطاء الذين لا يملكون سوى قوت يومهم وكرامتهم.
لقد سطّر شهداء الصحافة الشيوعية أروع فصول البطولة المدنية. لم يحملوا بنادق، لكنهم حملوا أقلامًا صارت أكثر مضاءً من السلاح. تحدّوا الأنظمة الدكتاتورية التي توالت على العراق، وصمدوا في وجه التعذيب والملاحقة والنفي والقتل، ورفضوا أن يتخلوا عن التزامهم بالحقيقة، حتى وإن كانت ثمنًا لحياتهم.
لقد ماتوا واقفين، لأن الكلمة عندهم لم تكن زينة، بل عقيدة.
كانوا يرسمون خارطة الوطن بالمواقف، لا بالوعود. إنهم أولئك الذين رأوا الصحافة شرفًا ومسؤولية، لا مهنة مدفوعة الثمن. كتبوا بلغة الناس، وبأوجاعهم، فصاروا ضميرهم. استُهدفوا، لا لأنهم أخطأوا، بل لأنهم أصابوا. اغتيلوا لأنهم نبّهوا الناس، وأيقظوا وعيهم، وسمّوا الأشياء بأسمائها في وقتٍ كان التمويه فيه فضيلة عند البعض، وكان الصمت أضمن طريق للنجاة.
في عيون شمران الياسري، كان الوطن قصيدة، وفي قلم صفاء الحافظ كانت الحرية نشيدًا لا يصمت. وفي صوت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، كان العراق فكرة تقاتل، لا جغرافيا تستسلم. أما عدنان البراك، فكان مدرسة في الصلابة الصحفية، مثلما كان محمد سعيد الصكار شاعر الحرف والصورة، ورسّام الصوت في زمن الخوف.
رشدي العامل لم يكن شاعرًا فقط، بل كان ضميرًا شعريًا ينطق بوجع المدينة. وثائرة بطرس، بحسها الصحفي العابر للنوع الاجتماعي، كتبت حضور المرأة في معركة الوعي والمساواة. وسعود الناصري، رجاء الزنبوري، حاجي جمال، ذياب كزار، خليل المعاضيدي، سامي العتابي، وغيرهم، تركوا آثارهم في سطور الصحافة، كما تركوها في قلوب قرّائهم.
هؤلاء الأبطال لم يكونوا أفرادًا، بل ظاهرة عراقية نادرة، جمعت بين النضال الصحفي والسياسي، بين الثقافة والموقف، بين الحلم والجرأة على تحقيقه. لم يتنفسوا إلا في هواء الحرية، ولم ينحنوا إلا للشعب.
نستذكرهم اليوم، وفي القلب غصّة ودهشة: أين نحن منهم؟ لقد غابوا، لا لأنهم شاؤوا، بل لأن زمنًا غادرًا قرر أن يخمد المشاعل. لكن مشاعلهم لم تخبُ. ما زالت تضيء. بل إن وهجها صار أشد سطوعًا كلما أظلمت طرق الحقيقة.
في زمن تتراجع فيه الصحافة إلى حدود الترويج والتدجين، وتُباع فيه المواقف في أسواق السياسة الفاسدة، ما أشد حاجتنا إلى عبد الحميد بخش، حسن العتابي، مصطفى عبود، محمد كريم فتح الله، عبد القادر إسماعيل، هادي صالح، كامل شياع، محمود صبري، وغيرهم من الشهداء والأحياء الذين ظلوا أوفياء للمهنة والناس.
إن القائمة التي نقرأها لا تضم فقط أسماءً، بل تفتح أمامنا كتاباً من الشجاعة والنقاء:
عبد الجبار وهبي، عبد الرحيم شريف، عدنان البراك، شمران الياسري، محمد سعيد الصكار، رشدي العامل، سعود الناصري، صفاء الحافظ، عبد الحميد بخش، رجاء الزنبوري، حسين قاسم العزيز، مصطفى عبود، ثائرة بطرس، سامي العتابي، خليل المعاضيدي، حاجي جمال، ذياب كزار، اسماعيل خليل، هادي صالح، قاسم محمد حمزة، هاشم الطعان، إبراهيم رشيد، حسن عوينه، ستار مهدي، ملا حسن، مؤيد نعمة، قاسم عبد الأمير عجام، حسن العتابي، عبد الستار زبير، مصطفى عبد الله، دلمان آميدي، محمد كريم فتح الله، فيصل عبد الغفار العاني، عمار جبار، عبد القادر اسماعيل، محمد حسين ابو العيس، ثابت حبيب العاني، محمود صبري، مهدي عبد الكريم، رحيم عجينة، عبد الأمير الحبيب، كامل شياع، محمد درويش علي، مهدي محمد علي، سليم عبد الأمير حمدان، خالد الحلي، بحر الخالدي، باسم محمد غانم.
إنهم جميعًا، بلا استثناء، مفخرة للصحافة العراقية، وللضمير الإنساني الحي. كانوا رموزًا حقيقية للثقافة الوطنية، رفعوا رايات التنوير في وجه الظلام، وبذلوا أرواحهم عن طيب خاطر كي لا تسكت الكلمة.
وها نحن اليوم، إذ نعيش وسط أمواجٍ عاتية من الردّة الحضارية، وسيادة الأمية، والتخلف المقنّع بلغة الدين أو الطائفة أو العشيرة أو السوق، نتلمّس آثار أقلامهم في الطرقات، ونسمع أصواتهم تعاتبنا من بين السطور، وتسأل: من سيكمل الدرب؟ من يحمل المشعل؟ من يتذكّر أن الصحافة شرف لا سلعة، وأن الحبر الذي لا يمتزج بنبض الناس، ماء مهدور؟
تحية من القلب، لا يحدّها زمن، ولا تطفئها خيبات الحاضر، إلى أولئك الشهداء، إلى الذين سكنوا الذاكرة مثلما سكنوا الحلم. إنهم النور الذي يضيء لنا الطريق، حين يطول ليل العراق.