يروج البعض لنعومة النظام الملكي، وكأنه مظلوم وثوار تموز كانوا من الظالمين، في حين أن ذاك النظام بتفصيلاته، كان نظاما تابعا من ناحية لسلطة المندوب السامي البريطاني، ومرتبطا من ناحية أخرى ارتباطا عضويا بالإقطاع الذي ظلم بدوره 75 بالمئة من العراقيين الذي كان يضمهم الريف آنذاك. ناهيكم عن الظلم الذي كان يلحق بالعمال في الحضر جراء استغلال الرأسمال الأجنبي لشركات النفط، او سطوة الرأسمال الاقطاعي وما كان له من مصالح اقتصادية تملأ السوق العراقية الناهضة آنذاك، والمطلوب من وزارة التربية أن تمنهج التاريخ ليكون مادة علمية محايدة لا تتنكر لفترة الرابع عشر من تموز، تلك الفترة، التي انتقلت بالعراق إلى النظام الجمهوري الحديث.
اسباب قيام ثورة 14 تموز
لم تكن ثورة 14 تموز إلا وليدة ظروفها الموضوعية، سيما وان اللواء الذي قام بالثورة هو الوحدة العسكرية العراقية المكلفة باحتلال سوريا، بتعبير أخر كان العراق وسيلة بريطانيا للتعدي على الغير وضم دول عربية أخرى للاتحاد الهاشمي الذي كان سابحا في أفلاك وسياسات المملكة المتحدة، التي كانت لا تسمح للعراق حتى في إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية آنذاك، وبالمختصر كان العراق بسبب بريطانيا عدوا للثورة المصرية وعدوا لسوريا برئاسة شكري القوتلي، وله مواقف سياسية منحازة جعلته معاديا لسياسة عدم الانحياز الذي جاءت به مقررات مؤتمر باندونغ عام 1955. ومن الأسباب الأخرى للثورة، شيوع الفقر والجهل والمرض، برغم محاولات النظام الملكي معالجة بعض تلك الظواهر، لقلة الأموال التي تعود للبلاد بسبب استغلال شركة النفط البريطانية I.P.C. وأخواتها لثروات العراق الطبيعية، وكانت حكومات الجنرالات التي جاءت على ظهر الدبابة البريطانية تتعاطف مع المحتل لتحقيق مأربها، وفي عام 1957 على سبيل المثال كانت أجرة ( خلفة البناء دينارا واحدا وأجرة عامل الطين الذي يحمل طاسة الجص 400 فلس يوميا ) في حين كان راتب رئيس الوزراء 400 دينار، وكانت النخبة الحاكمة تتمتع بالامتيازات مقابل أجور الكفاف لموظفي الدولة والطبقة العاملة، اما حالة الفلاح فلم تكن إلا في أسوأ الدرجات وكانت تتمثل بعدد من( كواني ) التمر الجسب نهاية موسم الحصاد، وجاء المثل الشعبي ( جسبات العبد ) كما وان النظام تصدى منذ ولادته عام 1921 لكل معارضة شعبية، وكون نظاما برلمانيا صوريا، كما هو حال نظامنا الحالي، وكان يمنع الأحزاب تارة ويجيزها تارة أخرى، أما الأحزاب العمالية او الأحزاب اليسارية، فقد كانت محظورة حتى قيام الثورة، وكان يمنع المواطن من الحصول على صحافة تلك الأحزاب، وكانت تعمل في السر لإسقاط النظام، بالمختصر، وبرغم بعض الإصلاحات أو ما أنجزه النظام الملكي من جسور ومشيدات، إلا أنه كان مكبلا بقيود معاهدة 1930 التي كانت تجيز للجيوش البريطانية الدخول إلى العراق او المكوث في قواعده دون اذن مسبق، او عند الطلب، وهكذا تم للجيش البريطاني القضاء على ثورة مايس عام ، وكان ذاك واحدا من الأسباب، إضافة إلى اسباب كثيرة أخرى منها تشكل خلايا الضباط الأحرار التي قادت الجيش للثورة صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958 .
منجزات ثورة 14 تموز الخالدة
لم يعرف العراق تحولا سياسيا نوعيا إلا لحظة قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بعد كبوات سياسية متتالية جراء حكم نوري سعيد وزبانية جنرالات مدرسة الإستانة العسكرية وحليفها الاقطاع المتراجع عن كل تطور شهده العالم حتى اواسط القرن العشرين، وبعد إعلان الجمهورية، تشكلت لأول مرة حكومة من التكنوقراط التي وضعت أسس الدولة الحديثة، وكان من ثمار الثورة التحولات التالية. والتي نعرض بالمختصر لبعضها لاطلاع الاجيال على ما يراد التعتيم عليه.
أولا ..... التحولات السياسية.
تم إعلان الجمهورية على إثر إلغاء النظام الملكي، وتم إطلاق الحريات السياسية لأول مرة، والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية، والتبشير بحرية الصحافة، وتم لأول مرة إطلاق حرية تشكيل النقابات، وكان من نتائج ذلك تأسيس نقابة الصحفيين العراقيين وتم انتخاب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري نقيبا للصحفيين، وقد حرصت الثورة على التخلي من قيود الاستعمار القديم والابتعاد عن محاور السياسة البريطانية، وتم إثر ذلك الخروج من حلف المعاهدة المركزية ( السينتو) على غرار حلف الناتو المكون من الباكستان وتركيا والعراق وايران وبريطانيا عضو مؤسس وانضمت له فيما بعد الولايات المتحدة كعضو مشارك، وسمي بحلف بغداد . كما وأن الثورة كسرت القيود الاستعمارية المفروضة على العراق من خلال الانفتاح على الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وتم اعتماد السفارة السوفيتية والصينية في منطقة كرادة مريم، بالقرب من القصر الجمهوري، وقد عاد الوطنيون المعارضون للنظام السابق وفي المقدمة الراحل مصطفى البرزاني، وكان من نتائج الثورة إعادة العلاقات الطبيعية مع الدول العربية، وقامت الثورة بمساندة القضية الفلسطينية، وساعدت الشعب الجزائري في ثورته على الاحتلال الفرنسي، وكان الزعيم الراحل يعد العدة للانتخابات البرلمانية، وقد شهدت المحاورة التي جرت في العام 1961 بين الزعيم الراحل والمهندس المقيم لبناية المجلس الوطني ( البرلمان في كرادة مريم قرب وزارة التخطيط الحالية ) ماجد المدلل، فقد سأل الزعيم، متى تنتهي اعمال البناء ؟ نحن نستعد لإجراء الانتخابات البرلمانية، ونحن نريد العودة إلى مقراتنا العسكرية. هذه شهادة للتاريخ أنقلها كما هي وقد كنت عاملا نقابيا مدركا لما كان يقوله الرجل.
ثانيا ..... المنجزات الاقتصادية والعمرانية.
لقد تم تشكيل حكومة الثورة الأولى من المشهود لهم بالوطنية والكفاءة والاختصاص، وباشرت تلك الحكومة من أيامها الأولى بالتخطيط لمشاريع تخدم فقراء البلاد بالدرجة الأولى، وتضع أسس الدولة الحديثة، فكان قانون الاصلاح الزراعي، الذي أجاز تفتيت الملكية الزراعية، لصالح الفلاح الذي ظلمته فرمانات سلاطين الدولة العثمانية أو هبات جنرالات الجيوش البريطانية، وهكذا أنصفت الثورة الفلاح، وصار منتجا لنفسه بدلا من الاقطاعي المتحالف مع الأجنبي وحكومات العهد القديم ، وتم لأول مرة تأسيس الجمعيات الفلاحية للأغراض الانتاجية والتسويقية، وباشرت الثورة بإقامة الصناعات الحديثة من خلال بناء المصانع، وتوزيعها على المحافظات، وقامت بتحديث السكك الحديدية، وتوسيع الموانئ، وتوسعت بتعبيد الطرق، وانشاء سد دوكان وسد دربندخان، وانشاء قناة الجيش التي لا زالت شاخصة برغم الإهمال، وكانت النية متجهة لإنشاء قناة الجيش في مجرى نهر الخر غرب بغداد بالتوازي مع قناة الجيش الحالية، وفي مجال الإسكان قامت الثورة بإنجاز أكبر مشاريع الاسكان الشعبي، منها مدينة الثورة شرق القناة، ومدينة الشعلة شمال غرب بغداد، ومدن إسكان شعبي في المحافظات، وفي مجال التربية والتعليم، تم انشاء جامعة بغداد عام 1961 وتم تحديد مكانها في أرقى واجمل مناطق بغداد، وكان رئيسها العالم الكبير عبد الجبار عبد الله، وتم التوسع بإنشاء المدارس الحديثة، وفي مجال الصحة تم انشاء الكثير من المستوصفات والمستشفيات، وفي المقدمة مدينة الطب التي لا زالت تزهو بحلتها القديمة، وقد تم لأول مرة تحديد أجر العامل، وتحسين رواتب الموظفين، وفي مجال النفط مورد العراق الأهم، كان للثورة صراعات مستمرة مع شركات النفط الأجنبية، مما دفع بها بإصدار قانون رقم 80 لعام 1961، الذي حد من استغلال الشركات لموارد البلاد الطبيعية، وكان للثورة اليد الطولى في إقامة مؤتمر بغداد الذي أسس منظمة اوبك، وللمنظمة الفضل حتى هذه الساعة بالتحكم بأسعار النفط العالمية، وقامت الثورة بإعلان الخروج من منطقة الإسترليني وقيودها وتم طبع العملة الجديدة، وللثورة الكثير من الأعمال التي لا زال تأثيرها باقيا على الاقتصاد الوطني، ومنها تأسيس مصلحة المبايعات الحكومية التي كانت بمثابة العتلة التي تقدم السلع الاستهلاكية بأسعار منخفضة لصالح الفقراء من أبناء الوطن، كما وقامت الثورة بتحديث القوات المسلحة وتوسع ملاكاتها بحيث أصبحت قادرة بحق على الدفاع عن السيادة الوطنية .
إن ثورة الرابع عشر من تموز بإنجازاتها الماثلة اليوم كانت ولا زالت نقطة تحول في حياة العراقيين، وإذا أراد البعض أن يستغل رحيل أجيال الثورة ليعتم على منجزاتها، فإن نظام الجمهورية لوحده كافيا أن يعيد الثورة إلى ذاكرة الاجيال القادمة.