اخر الاخبار

أنا والرفاق في الجريدة منغمرون في عمل دؤوب مع المكاتب الصحفية. نناقش معاً تجربة المكاتب الصحفية، وهي في نظرنا معاً تجربة فريدة في الصحافة عموما وفي الصحافة الحزبية بالتحديد. لقد بنيت هذه الشبكة الواسعة من المكاتب بتعاون فريد بين هيئة تحرير الجريدة وبين التنظيمات الحزبية. توسعت هذه المكاتب حتى وصلت الى مستوى النواحي. ووصلنا في تغطياتنا الى قرى تكاد تكون مجهولة حتى من الجهات الحكومية. ممارسة العمل الصحفي والتحقيقات بالتحديد تخرج الكادر الحزبي من الانغلاق والمكتبية وتوسع علاقاتهم بالناس ومشاكلهم وتجعل الجريدة منشطا للحزب.

دورات مناطقيه في المحافظات ومركزية في مقر الجريدة لتدريب كوادر حزبية على كيفية كتابة تقارير عن قطاعات خدمية ومطالب جماهيرية وباختصاصات متنوعة: ثقافية، شبابية، عمالية، مشاكل فلاحين… نسمع من الرفاق ملاحظاتهم على الجريدة، وهي ملاحظات درست وبوبت بدقة ودأب. كما نقدم لهم ملاحظاتنا: تشابه وتكرار في المواضيع. المكاتب تنقل مواضيع كتبتها مكاتب أخرى. ضرورة الابتكار والتنوع في المواضيع وأسلوب التناول.

13 /3 /1979 بغداد:

منذ الصباح وصلت الى مقر الجريدة ففوجئت: أكثر من خمس سيارات للأمن تطوق مبنى الجريدة بشارع السعدون، الى جانب وجوه غير التي عرفناها تراقب ما حولها في عرض مقصود، لأول وهلة قدرت أنهم داهموا الجريدة.. أضع هذا الاحتمال في ذهني صباح كل يوم وأنا متوجه للجريدة، بل انني تخيلت تماماً شكل المداهمة، وكيف ستتحول الى كمين لاصطيادنا. عندما دخلت الى المبنى رأيت منتسبي المطبعة والموزعين والسواق، وللحال عرفت انهم صادروا عدد الجريدة الذي يتضمن رداً على مقال نشر في جريدة (الراصد)، ثم عرفت شكل المطاردة: أية سيارة تغادر المطبعة أو الجريدة تطاردها الدراجات النارية والسيارات، وحالما توزّع الصحف يجمعونها من الباعة. مطاردات أشبه ما تكون بجري الكلاب وراء فريستها. لقد حاولوا حظرنا من إيصال، حتى ولو عدد واحد الجريدة، لكن الأمر لن يتم لهم بهذه السهولة. فقد تسربت وريقات ووصل صوتنا الى الخارج.

مصادرة العدد بهذا الشكل المربك زاد معنوياتنا. سيعرف الناس بغياب الجريدة، سيتساءلون ويعرفون ان هناك جهات لا تريد من يقول لها: لا! ومع ذلك هناك من يقولها! خطوة باتجاه العمل السري. بدأنا نخفي المقالات في ملابسنا لنوصلها لمن ينبغي أن يقرأ ويعرف. وقد زادت هذه الخطوة من شجاعتنا للتصدي والمناكدة. اذن نحن بدأنا نشكل خطراً جدياً، وان صوتنا يسمع.. منذ زمن كانوا آمنين لأننا لن نقول أكثر مما ينبغي، والآن بدأ صوتنا الذبيح يخيفهم، متأخراً، لكنه مع ذلك أعطى لوجودنا معنى.

24 /3 /1979:

صباح كل يوم نذهب الى مقر الجريدة ونحن ملزمون بعد النزول من الباص بعبور الشارع. خلال هذه المسافة القصيرة تصبح كل الاحتمالات موضع امتحان حقيقي، في هذه المسافة القصيرة نحاول أن نحتمي بمظهر المواطنين العابرين الذين لا يعرفون السياسة والتحزب، وخلال ذلك نراقب باب الجريدة لنرى ما يدل على انها انتهكت، أو ان الامور لا تزال على طبيعتها كما هي كل يوم، وكان هاجسنا مع كل عبور أننا مرصودون من أعين العسس المتحفزين بانتظار الأوامر، حتى ندخل المبنى فنجد وجوه رفاقنا، آنذاك ينحل القلق ويعود أمان الروتين اليومي.

اليوم عبرت الشارع بثقة وبرود غريبين، بل انني اخترقت اثنين من عسس الأمن متعمداً، لكنني ما بلغت هذا البرود الا بعد اجتياز حاجز الخوف الأسود، ووطنت نفسي لأسوأ الأمور.

31 /3 /1979:

من الصباح لبست أفضل ما لدي من ملابس ووضعت زهرة قرنفل على صدري وذهبت الى الجريدة، اليوم هو العيد 45 لتأسيس حزبنا، بأي ثمن وبأية وسيلة ينبغي أن نستدعي الفرح، قد تكون نفوسنا مصدعة، ولكن ممارسة هذا التقليد تعطينا حيوية وتجدداً، تعانقنا في الجريدة، وقبّل بعضنا بعضاً، وجلبت “فاطمة المحسن” سلة من زهور وأغان وحلوى.. يا لقلتنا ويا لوحشة  الجريدة، ومع ذلك يمكن أن نصنع فرحاً متواضعاً، كما في خلية من خلايا الحزب، وعللنا أنفسنا بأخيلة لا تحد عن رفاقنا الذين يحتفلون في كل مكان من العالم.. البرقيات التي تتالت أعطتنا احساساً بالمهابة.. ان هذه المجموعة القليلة هي جذر الحزب في التربة العراقية القاسية، وكنا نعرف كم من انسان فرح في مخبئه، وكم من مجموعة  أقامت فرحأ سرياً، كل عام كانت هذه المناسبة تستحيل الى مهرجان حقيقي، أما ألان فإن هذا الفرح الموحش له طعم خاص كشمعة توقد في قلب المحنة الصعبة. قال لنا رفيق: ليس هذا أول فرح صعب، لمرات احتفلنا في بيوت الاختفاء، ولمرات احتفلنا في السجون، وأحياناً في زنازين انفرادية. قلنا اذن ستنجلي السحابة وسيكون احتفالنا الصغير هذا ذكرى جميلة. في كل العالم يبدأ رفاقنا احتفالاتهم بشرب نخبنا نحن القلة المحاصرة التي أنجزت العدد الاحتفالي للجريدة بتحد عجيب!.

نحن الآن على الحافة، لقد بلغ التوتر والاستقطاب مداه الحاد، ولم نعد نعاتبهم، انما نتحداهم برقابنا الممدودة على المقصلة.. لقد تجاوزنا حواجز الخوف وأصبحنا نصنف الخوف ونجزؤه: الخوف الفعال من الخوف الجبان، الخوف الشريف والخوف الذي يتحول الى خيانة.

انهم الآن على مفترق لا عودة منه، أن يمضوا بالشوط حتى نهايته في ردة سريعة، لكن هناك حواجز، انهم يطلقون كل مدفعيتهم الثقيلة، وفي الوقت نفسه يتركون للمفاوضات نافذة. ماعاد لدينا ما نخسره، لذلك ينبغي ان نتظاهر بالقوة والعناد. ولكثرة ما توقعت من أسوأ الأمور فقدت حتى حذري، لم أعد أهتم كثيراً بسيارة قادمة قد تصدمني في هذه الطرق التي أقطعها كل يوم ماشياً على قدمي، وأنا أفكر أنه فوق هذه الطرق ستمرغني على الأرض واحدة من سياراتهم المتربصة وتمضي، ربما أصبح استهتاري بالموت هذا مزيجا يزيد فيه اليأس قليلاً على الشجاعة، لقد أخِذتْ مقالات لئيمة ضدهم باسمي الكامل وأنا أعرف بأية نوايا صفر يفسرون ما نكتبه، يوجدون نوايا ومقاصد لم نضعها نحن، وباستمرار أحرص على أن أحضر العروض السينمائية والمسرحية والمعارض، وأنا متأكد من أن العسس سيكونون هناك بانتظارنا .. ان وجودنا يعيد للناس شيئاً من الثقة والشجاعة، وفي هذه المعارض التقي بشباب يقتربون مني ويسألونني فاحدثهم بهدوء وبرود، وأرى عيوناً متسعة من بعيد ، شديدة السواد، دبقة، تراقبني وتتهامس.. أصبحت أعرفهم وأميزهم من بين مئات الوجوه، وأشم رائحتهم وأعرف سياراتهم، وكيف يراقبوننا ويتبادلون المهمة ليموهوا علينا، وعندما أذهب الى مقر اتحاد الادباء أرى بعضهم يحتل الموائد التي كان يجتمع عليها ألطف وأجمل كتابنا وشعرائنا.. انهم يجلسون بثقة عالية كأن الاتحاد مجالهم وناديهم، ويستدعون عمال الخدمة ليسألوهم عن أسماء الوجوه التي لا يعرفونها.

هؤلاء أنفسهم سيخطفوننا ذات يوم من الشارع، وسيعذبوننا ويحققون معنا.. انني أحس أصابعهم وعيونهم فوق الورقة التي أكتب عليها. لقد عرفت انهم يجمعون في ملفات خاصة كل ما نكتبه أو يكتب عنا، ويضعون تحت الكلمات التي لا يفهمونها أو يفهمونها بسوء نية خطوطاً واشارات. وذات يوم جلبوا الى اجتماع الجبهة ملفاً كبيراً عن التحريض ضدهم بالقصائد والقصص، انهم يضعون ما ننشره تحت المجهر، وفي غرف التشريح، وأنا أناكدهم بأن أكتب باستمرار عن النازية، وعن الشعراء والروائيين والفنانين الذين قاوموا النازية وانتصروا عليها، وأضع في غرفتي التي ستستقبلهم ذات يوم صورتين كبيرتين جدا: لوحة الجورنيكا لبيكاسو، وصور وثائقية للجنود السوفيات يضعون العلم الأحمر على الرايخ النازي.

6 /4 /1979:

قبل أن نعود إلى بيوتنا بساعة نزل رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي ليقول لنا وعلى فمه ابتسامة مقصودة” هيئوا أنفسكم للفكر الجديد، فقد أغلقوا جريدتنا لمدة شهر”. فوجئنا بتحديد المدة، فقد كنا ننتظر إغلاقا نهائيا. رد فعلنا الأول هو الصمت، وبعدها بدأت التعليقات، وبسرعة اكتشفنا أن الأمر ليس إلا مفارقة. لم نحزن ، بل على العكس ،عرفنا إن الجريدة صارت في الأيام الأخيرة مؤذية لهم. لقد بلغوا من التصلب حد أنهم لم يحتملوا حتى العتاب.

كنت قد هيأت نفسي لأيام الفراغ التالية ووضعت أمامي مسودة رواية وضعت لها عنوانا افتراضيا هو (نفق إلى الشمس).

عرض مقالات: