ربما كانت سعادتي متميزة، وأنا أنهمك في قراءة إصدارين جديدين لكاتبين ماركسيين، لا لأني أعرفهما وتعلمت مما كتبوه، ولا لأن نشاطهما الفكري هذا جاء مكملاً لمسارهما النضالي كمثقفين عضويين فحسب، بل ولأهمية الموضوعات التي عالجتها هذه الكتب، في سياق التناقضات المتزايدة التي تعصف بالعالم المعاصر من جهة، ومع تبخر أحلام "أو ربما أوهام" العراقيين، من أن يُفضي سقوط البعثفاشية لقيام بديل ديمقراطي من جهة مكملة، وما تستدعيه تلك المتغيرات من تحليل متجدد للبنية الاقتصادية والاجتماعية للنظام الرأسمالي وتوابعه، وكشف الآليات التي تمكّنه من الإفلات من أزماته الدورية، واستخدام النظرية أداةً للتغيير الثوري عبر فعل نضالي، يحقق تفكيكاً لبنى السيطرة والاستغلال، ومن خلال تبني رؤى بديلة لعالم أكثر عدلاً ومساواة.
كتاب {دراسات ماركسية معاصرة}
وأنا أقرأ هذا الكتاب، للصديق رشيد غويلب، والصادر عن دار البعد الرابع في النجف، تذكرت ما قاله الشاعر العظيم ناظم حكمت، من أن "أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد وأجمل الزهور تلك التي لم تتفتح بعد وأجمل القصائد تلك التي لم تُكتب بعد"، إذ شعرت بأن أعمق وأصدق حديث عن الماركسية واليسار، هو الذي لم يرو بعد، لاسيما بعد زلزال التسعينيات الذي أفضى لانهيار تجربة اشتراكية القرن العشرين. وجاء شعوري هذا من متابعتي لحجم المرارة التي غشيت العقول، بعد فشل التجربة السوفيتية في الصمود بوجه العولمة المتوحشة، والإرهاق الذي تعرضت له حركة الفكر في الدول الرأسمالية المتطورة، والتراجع المؤلم أمام اللوثيان القومي والديني في دول حركة التحرر الوطني، وما فرضه اتساع تلك الغشاوة من ضرورة اعترافٍ شجاعٍ بالأخطاء والخطايا، وتقييم نزيه، لما تقادم من الفكرة بحثاً عن بدائل حيًة له، أو لما بقي منها، يتدفق نبضاً ويهدي قدماً السائرين.
ويأتي الكتاب شاهداً على ذلك، فقد نجح الباحث رشيد غويلب، والمعروف بتفاؤله الثوري وتعامله النقدي مع الواقع الاجتماعي، في التقاط مجموعة من الدراسات والأبحاث المنشورة في لغات أجنبية، فترجمها إلى العربية وأعدّها واضحة للقراء، ليس على أساس أسماء المفكرين الذين عالجوا مشكلات راهنة برؤية نقدية ثورية، تُساءل ماركس الكلاسيكي وتبث فيه روحاً معاصرة فحسب، بل وأيضاً بناءً على الموضوعات التي بحثوها وأدوات التحليل الماركسي التي دأبوا على تطويرها، وذلك بغية الكشف عن العرى التي لا تنفصم بين اليسار المعاصر وبين القيم الانسانية النبيلة، وتحديد الأبعاد التي يعبّر بها هذا اليسار عن العدالة والحرية في زمن الخراب، والتي لم تعّد تنحصر في الاقتصاد فقط، بل وباتت تشمل القيم الثقافة والروحية ومعطيات التاريخ والجغرافية وغيرها.
وصار الكتاب بهذا مصدراً مهمًا لمن يرغب في متابعة تطور الفكر الماركسي في القرن الحادي والعشرين، ومفتتحاً يحفّز النقد والتحليل الذين يثريان النقاش الفكري والسياسي، ليس لتفعيل المشروع الماركسي فقط، بل ولتحديثه وتفكيكه وإعادة بنائه، وقبل هذا وذاك لإعادة قراءته في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية الراهنة، كأزمة الرأسمالية المتأخرة والانعكاسات الاجتماعية للنيوليبرالية، وتحولات الطبقة العاملة وانفصالها الجزئي عن الدور الثوري الكلاسيكي، والهيمنة الإمبريالية في عصر العولمة والإنتقال لما بات يصطلح عليه بالإقطاع التقني.
ونجح الصديق رشيد غويلب في تبويب الكتاب، حين قسّم موضوعاته إلى خمسة أقسام، ضّم الأول منها دراسات معاصرة حول لينين، المصدر الملهم الأبرز لتجديد الماركسية، حسب تعبير جورج لوكاتش، وذلك من أجل تفكيك تراثه الفكري وإعادة قراءته كأعظم قائد ومنظر استراتیجي وتكتیكي ماركسي في القرن العشرین، وإستلهام جوهر ذلك التراث في النضال الطبقي الراهن، وبعيداً عن "اللينينية" التي أراد بعض تلامذته استخدامها تعويذة لتحصين خيباتهم وأخطائهم، وهو ما تجلى في أبيات بريخت عنه حين قال (أنتم يا من تجعلون صورة إیلیتش ثابتة، عشرون مترا في قصر النقابات، لا تنسوا ثقب حذائه أیضاً، ذلك الذي شھده الكثیرون، شارة الفقر، یتھادى إلى سمعي، أنه یشیر إلى الغرب، حیث یعیش الكثیرون، الذین یعرفون من حذائه، أن إیلیتش واحد منھم).
في القسم الثاني، اختار الكاتب أربعة موضوعات عن القائدة الشيوعية الفذة روزا لوكسمبورغ، تمحورت حول أبرز معالم تراثها النظري وقدراتها في المتابعة النقدية للفكر والممارسة وفي استشراف المستقبل. وجاءت الموضوعات لترينا آراء روزا بثورة أكتوبر وقضية التحالف بين البروليتاريا والفلاحين والديمقراطية الاشتراكية والتحرر والعدالة والتطور الرأسمالي. ورغم تقادم بعض تلك الأراء اليوم، بفعل التطور التاريخي، فإن لروزا الكثير مما يمكنها أن تنصح به اليسار المعاصر.
وخصص الكاتب القسم الثالث لموضوعات عن الحرب والسلام، استمدت أهميتها من الدور الذي لعبه اليسار وما يزال في الدفاع عن السلام ونبذ الحرب، والكفاح العنيد ضد سباق التسلح وتوسيع الأحلاف العسكرية وتبصير الناس بالمخاطر الكبيرة على البلدان التي تنخرط فيها. وبسبب المخاوف الكبيرة من امتداد لهيب الحرب الروسية الأوكرانية لأوربا، وربما للعالم، جاءت الموضوعات لتؤكد على أن الیساریین لا يحددوا طبیعة الحرب على أساس من أشعلها أو یخضعوا للسردیة السائدة حولها، بل على ماھية المصالح السیاسية الطبقية المرجوة من ورائھا، ويعّدون كل حرب إجرامیة إذا لم تكن حرباً دفاعیة صریحة. وأشارت بعض الكتابات إلى المواقف الماركسية التي تبنتها أطياف اليسار ولاسيما الأوربية منها، من الحرب ومخاطرها اليوم.
في القسم الرابع جمع الكاتب ثلاثة عشر موضوعاً تتعلق بحركة اليسار العالمية اليوم ومعالم التجديد التي باتت تتسم به وأبرز اخفاقاتها ونجاحاتها. وشمل ذلك ما يسمى بالمد الوردي في أمریكا اللاتینیة، في البرازيل وتشيلي وكولومبيا والسلفادور وبيرو وغيرها، ونمو نفوذ أشباه البرولیتاریا وتأثيرهم على الحراك الاجتماعي، وأبرز ما تطرحه المرحلة من أسئلة طبقية، وطبیعة الحركة الاجتماعیة التحرریة المضادة للرأسمالیة، والتحدیات التي تواجه الیسار، وطبيعة النسوية الماركسية، وقضايا العلمانية ودور الدين، إضافة إلى قراءات في تراث أنجلس وغرامشي ولوكاتش.
وكانت موضوعات القسم الخامس المتعلقة بالرأسمالية والاشتراكية اليوم، مكملة للأقسام السابقة من خلال ما قدمته من تصورات معاصرة عن أكبر قضايا التاريخ حيوية وارتباطاً بمستقبل البشر. ولهذا جاء القسم السادس والأخير والذي ضّم مواضيع تتعلق بالفاشية الجديدة والاستبداد اليميني الرجعي، والنمو الدراماتيكي له في العالم وخاصة في الدول الأمبريالية، ليشير للمخاطر الهائلة التي تهدد هذا المستقبل، والمسؤوليات التاريخية التي تقع على عاتق اليسار لمواجهة هذه المخاطر ووأدها، كما سبق له وفعل ذلك قبل ثمانية عقود. فإلى جانب استعراض استراتيجية اليسار الفرنسي والجبهة الشعبية واليسار الإيطالي لمواجهة الفاشية الصاعدة في هذين البلدين، جاء النص التاريخي الذي كتبته المناضلة الشيوعية الألمانية المعروفة عالميا كلارا زيتكن، قبل 100 عام، ليضع علامات مضيئة أمام يسار اليوم في صراعه مع الفاشية الجديدة، لاسيما بتحذيرها من أن الفاشيين يمكنهم أيضًا حشد الجماهير في ألمانيا والوصول إلى السلطة، خاصة وإن الفاشية مازالت تمثل حتى بنسختها الجديدة، العدو الأقوى والأكثر شراسة للبروليتاريا، وأن هزيمتها تشكل ضرورة أساسية، لا بسبب ترابط ذلك مع الوجود التاريخي للبروليتاريا، كطبقة يجب أن تحرر البشرية من خلال التغلب على الرأسمالية، بل وأيضاً لأن الانتصار عليها يرتبط بالخبز وظروف العمل ونمط حياة ملايين وملايين المستغَلين.
وختاماً، لا بد من كلمة إمتنان وتقدير للصديق الكاتب رشيد غويلب على جهده المتميز، كما أني موقن من أن كثيراً من قراء الكتاب سيشاطرونني هذه المشاعر.
كتاب {فكر عالميا ً وتصرّف محلياً}
لعل أول من استخدم هذه العبارة كان ديفيد بروير مؤسس أصدقاء الأرض، كشعار لمؤسسته العام 1971، وهناك من ينسبها إلى رينيه دوبوس أو فرانك فيذر الكندي أو عالم اللاهوت الفرنسي جاك إلو، حيث أراد الجميع تجاوز الأطر الضيقة للهوية والمكان، والانفتاح على وعي أممي مع الحفاظ على جذور الفعل الميداني المحلي.
وكان الصديق الباحث فرحان قاسم على حق تماماً حين أطلق العبارة على إصداره الجديد، عن دار جلجامش في بغداد، إذ يستغرق بجميع صفحاته التي زادت عن المائتين، في البحث عن ممارسة يسارية ترتكز على المنهج العلمي وعلى مشتركات اليسار عالمياً ووطنياً، وتستفيد من تراثه الغني لتحفيز أجياله الجديدة على التخلص من تشتتها وتشظي أساليب نضالها، وتبني رؤية مشتركة في مواجهة سيل التحديات التي تجابهها في صراعها مع الرأسمالية، سواء على الصعيد الفكري أو في الممارسة النضالية اليومية، ومن ثم ربط كل هذا العام بخصوصية المجتمعات التي تعيشها حركة اليسار في كل بلاد على حدة، بكل تاريخها وثقافتها وتركيبتها الاجتماعية ومعالم الصراع الطبقي الذي يعتمل فيها.
ضّم الكتاب سبعة فصول، اختص الأول بالنظرية السياسية بشكل عام، تعريفها، وخصوصية النسخة الماركسية لها والتي أُدخل عليها مفهوم "الدولة ومؤسساتها وقضايا الصراع الطبقي والثورة ونمط التنظيم والاستراتيج والتكتيك"، المتعلقة بقضية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، متوصلاً إلى تعريف يقول بأن "النظرية السياسية هي مجموع النظريات والآراء والتكتيكات والأساليب والآليات التي تستخدمها الطبقات المهيمنة على السلطة لتأبيد سيطرتها على المجتمع بكافة طبقاته وفئاته وشرائحه". وهي بهذا تتخذ ستة أشكال، نظرية الديمقراطية الليبرالية، ونظرية العقد الاجتماعي، والنظرية الماركسية، والنظرية الفوضوية، والنظرية النسوية، والنظرية البيئية.
في الفصل الثاني تمت مناقشة نظرية الرأسمالية السياسية في الممارسة، والأساليب التي تعتمدها لتثبيت أركان هيمنتها: كالنظام الدولي الكلاسيكي والمعاصر، وتبعية دولة أو دول لغيرها من القوى المهيمنة عالمياً، وتأجيج سباق التسلح على حساب التنمية الاجتماعية، والحروب كأداة لتحقيق اهداف رأس المال في توسيع الأسواق والموارد والأرباح، والفتوحات والإكتشافات الجغرافية، وتطوير قوى الإنتاج لمضاعفة فائض القيمة، وإطلاق أكبر حملات للخداع الأيدولوجي والحرب الثقافية والدعائية، وتشجيع التخادم مع الفاشية كسيف قمع وتضليل، وتبني الهجرة لتوفير قوة عمل رخيصة، وتشديد الهيمنة على دول الأطراف عبر القروض، وأخيراً تكييف القانون والشرعية الدولية ومنظماتهما الأممية لخدمة الهيمنة الإمبريالية.
وقدم الكاتب مناقشة متميزة في الفصلين الثالث والرابع لممارسة اليسار والتحديات المعاصرة التي تواجهه ونظرية الرأسمالية السياسية في الممارسة وأثر المنظرين الماركسيين، مثل لينين وروزا لوكسمبورغ و غرامشي ومدرسة فرانكفورت وجورج لوكاتش وغيرهم، على مستوى التنظير المجرد وعلى مستوى الممارسة، وبالتزامن مع مراحل تطور الرأسمالية، مشدداً على تغير طبيعة الصراع الطبقي داخل المجتمعات الصناعية وبينها وبين مجتمعات الدول التابعة، ومؤكداً على أن الرأسمالية لم تعد تُدار ضمن حدود الدول، بل باتت تنتج أزماتها وتعزز سيطرتها عبر سلاسل إنتاج عالمية، وأدوات مالية عابرة للحدود، وإيديولوجيات ذات طابع كوني. وفي هذا السياق، يغدو من غير المجدي – بل من غير الممكن – خوض صراع طبقي فعال دون رؤية عالمية، تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الاقتصاد المعولم، واستراتيجيات الشركات الكبرى، وأدوار الدول التابعة.
وفي سياق التحديات التي تواجه اليسار المعاصر، أشار الكاتب لمجموعة منها، تحديد المفاهيم كالرأسمالية والاشتراكية والموقف من الرقمنة والديمقراطية والليبرالية والطبقة الوسطى. كما وجد بأن مما يواجه اليسار أيضاً، مهام رسم السياسات المناسبة فيما يتعلق بالعولمة الاقتصادية والعمالة الرخيصة والسيادة الوطنية وخراب البيئة ومحاولات محو الخصائص الثقافية.
واستعرض الباحث نسخ اليسار التقليدية القديمة وأطيافه المعاصرة والمتجددة، متوصلاً للإقرار بوجود صعوبة في تحديد تعريف لليسار، جراء تعدد المعايير وتغير المواقع في أوقات زمنية أو الانتقال من ضفة لأخرى في منعطفات صارخة أو غائمة، مشيراً إلى أن مفهوم اليسار اليوم بات يغطي طيفاً واسعاً من الآراء كالأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية والحركات الاجتماعية والراديكالية وأنصار البيئة والحركات النسوية وبعض منظمات المجتمع المدني. وبالتأكيد، خلق هذا المفهوم الواسع صعوبات جمة في رسم نظرية سياسية تساعد اليسار على توحيد أهدافه وأشكال كفاحه.
وبعد أن خلص الكاتب إلى أن ما يميّز اليسار عن غيره، يكمن في التزامه بهدف تجاوز الرأسمالية عبر تشريك الاقتصاد والتنظيم الديمقراطي للمجتمع وتحقيق المساواة والإدارة الاجتماعية، اي بناء الاشتراكية، طرح جملة من الأفكار التي يمكن أن يتبناها اليسار اليوم في مواجهة حالات الإحباط التي تعاني منه بعض أطيافه، وضبابية المعالجات التي تتبناها، محدداً مجموعة من القضايا ذات العلاقة بمستلزمات نظرية الممارسة، كتكثيف الحوارات بين ممثلي حركات اليسار وتخليص هذه الحركات من نخبويتها وتبني استراتيجية عولمة الديمقراطية والعمل على تحرير بلدان الأطراف من التبعية إلى جانب تحقيق العدالة الاجتماعية.
كما تطرق الكتاب إلى أهمية اختراق المؤسسات الأيديولوجية البرجوازية وتوسيع الحراك الشعبي وتمتين العلاقة مع الحركات الاجتماعية، سواء ذات الأهداف الكونية أو المرحلية أو المحددة، والتمسك بالاشتراكية هدفاً بغض النظر عن سبل الوصول اليها. واختتم الباحث كتابه بالدعوة إلى عولمة التضامن وتحديد مهمتين متوازيتين لأطياف اليسار المختلفة، تتمثلان في خلق مؤسسات أيديولجية خاصة بها لمواجهة الرأسمالية واختراق المؤسسات الأيديولوجية البرجوازية وتوظيفها أو بعضها لصالح المشروع اليساري.
ورغم أن الكتاب قد أكد مراراً على إن أي نسخة من هذا المشروع، لا يمكن أن ترى النور إذا ما ظلت معلقًة في سماء التحليل النظري، ولم تتجذر في حياة الناس اليومية، في حاجاتهم، وخبراتهم، وأشكال مقاومتهم، بقي هو الآخر بحاجة للمزيد من ربط العالمي بالمحلي والتركيز الأكبر على إعادة صياغة العلاقة بين التحليل النظري الأممي والعمل السياسي المحلي، وللمزيد من التأمل في كيفية تفعيل الماركسية اليوم بوصفها أداة تحليل وممارسة من أجل تجاوز ما يعيشه العراق من خراب، وهذا ما نتطلع اليه في نتاجات الصديق الباحث فرحان قاسم القادمة، موجهين له، نحن القراء الشغوفين، تحية أمتنان وتقدير.