اخر الاخبار

مارس كارل ماركس (5 أيار 1818 – 14 آذار 1883)، الذي غالبا ما يجري الحديث عنه كفيلسوف واقتصادي ومنظر للفكر الاشتراكي ومكافح ثوري، مارس الصحافة كميدان أساسي من ميادين حياته ونشاطه. وكانت الصحافة، بالنسبة لماركس، ميدانا لتحليل الواقع والسعي الى تغييره. فمنذ مقاله الأول عام 1942 حول (حرية الصحافة في بروسيا) وحتى عمله كمراسل لصحيفة (النيويورك تريبيون) الأميركية، وهي التجربة الأطول والأكثر ثراء في حياة ماركس كصحفي، ظل ماركس يثق بقدرة الصحافة على الكشف عن تناقضات الرأسمالية. وكصحفي تتسم كتاباته بالسجال والجدل، استند ماركس الى فكره الفلسفي في نقد خصومه الفكريين، وساهم في بناء جسور بين الفلسفة والسياسة والاقتصاد.

ومن المعروف أن الصحافة الشيوعية (وبينها الصحافة الشيوعية العراقية) استرشدت بتجربة ماركس كصحفي (مثلما استرشدت بتجربة لينين في هذا الميدان). واحتفاء بالذكرى التسعين لتأسيس الصحافة الشيوعية في العراق، حيث صدرت صحيفة (كفاح الشعب) كأول صحيفة للحزب الشيوعي العراقي يوم 31 تموز 1935، واستقبالا لهذه الذكرى، نحاول في مقالنا هذا (ماركس صحفياً) أن نقدم قراءة جديدة، كما سنحاول في مقال لاحق أن نقدم قراءة في (لينين صحفياً).

السنوات الأولى

حين تخرج ماركس من الجامعة، حاصلا على شهادة الدكتوراه عام 1841 وهو في عمر الثالثة والعشرين، كان يأمل في الحصول على منصب أستاذ في الجامعة، غير أن السياسة الرجعية للحكومة أقصته، كما أقصت آخرين عن ذلك.

وفي تلك الفترة كان اليسار الهيغلي ينتشر على نطاق واسع في ألمانيا، وكان لودفيغ فويرباخ يتجه نحو المادية، وأصدر كتابه الحاسم الموسوم (جوهر المسيحية) عام 1841. وفي ذلك الوقت صدرت صحيفة معارضة في مدينة كولونيا باسم (الجريدة الرينانية) – راينيش زايتونغ – في كانون الثاني 1842. وعلى الرغم من إقامته في بون عند انطلاق (الرينانية الجديدة) فقد كان ماركس على علم بالمشروع منذ بدايته، وبدأ بالمساهمة في مقالات لفتت انتباه القراء.

وكانت أول كتابات ماركس قد اتسمت بالروح الانتقادية. وسرعان ما أصبح ماركس رئيسا لتحرير هذه الصحيفة، فراح اتجاهها يتسم بوضوح فكري أكبر في ظل قيادته، بينما اتسعت الرقابة الحكومية البروسية التي انتهت الى اغلاق الصحيفة في آذار 1843.

وفي خريف عام 1843 انتقل ماركس الى باريس ليصدر هناك مجلة بالألمانية حملت اسم (الحوليات الألمانية الفرنسية) مع أرنولد روغه، وهو من الهيغليين اليساريين الشباب. ولم يصدر من هذه الصحيفة سوى عددها الأول (المزدوج) في شباط عام 1844. وفي المقالات التي نشرتها (الحوليات الألمانية الفرنسية) برز ماركس ثوريا ينادي بانتقاد لا هوادة فيه لكل ما هو قائم، متوجها بندائه الى البروليتاريا من أجل الاطاحة بالعالم القديم. واضطرت الصحيفة الى التوقف بسبب صعوبات ناجمة عن توزيعها بصورة سرية في ألمانيا، فضلا عن خلافات ماركس مع البرجوازي الراديكالي روغه.

وطرد ماركس من باريس عام 1845 باعتباره ثوريا خطرا، بناء على ضغوط الحكومة البروسية، فأقام في بروكسل، وفي ربيع عام 1847 انتمى، وإنجلز، الى (عصبة الشيوعيين) وقاما بدور بارز في المؤتمر الثاني لهذه العصبة الذي انعقد في لندن في تشرين الثاني من العام نفسه. وبتكليف من المؤتمر كتب ماركس وإنجلز (البيان الشيوعي) الذي نشر في شباط عام 1848.

وعندما اندلعت ثورة شباط 1848 طرد ماركس من بلجيكا ليعود الى باريس، ومن ثم الى ألمانيا ليقيم في مدينة كولونيا، حيث صدرت (الجريدة الرينانية الجديدة) التي ترأس تحريرها في الفترة من الأول من حزيران 1848 حتى التاسع عشر من أيار 1849. ويعتبرها المؤرخون من أهم الصحف اليومية خلال ثورات 1848، واعتبرها محرروها وقراؤها خليفة لصحيفة كولونيا السابقة (راينيش زايتونغ).

وفي 16 أيار عام 1849 نفي ماركس، فانتقل الى باريس، ثم طرد منها بعد تظاهرة 13 حزيران 1849، ليذهب الى لندن حيث عاش حتى رحيله.

دفاعا عن حرية التعبير

وفر عمل ماركس كصحفي وكاتب عمود ومراسل مساهمات ومداخل هامة لعمله النظري. وطور ماركس، عبر مساهمته في ثورات أوروبا في القرن التاسع عشر، أفضل الحجج دفاعا عن حرية التعبير، والحاجة الى توسيع الحريات الديمقراطية البرجوازية في عملية الانتقال الى الاشتراكية.

ومن الطبيعي أن تتواصل، بعد ما يزيد على 180 عاما على دفاعه الرائع عن حرية التعبير عام 1842، الجدالات الحية في عصرنا حول هذه الموضوعة. فبينما يكافح الناس ضد الأنظمة الاستبدادية لتحقيق الحريات الأساسية في الحياة، فان الملايين في الديمقراطيات الليبرالية وسواها يمارسون احتجاجاتهم ضد فقدان تلك الحريات على يد الرأسمالية المعولمة.

لقد ظلت العلاقة بين الكفاح الديمقراطي وهيمنة الطبقة العاملة على الانتاج مسألة أساسية. وبينما يؤكد التحليل الماركسي على أن المسألة تكمن في نمط الانتاج الرأسمالي وسعيه المنفلت الى الأرباح، فان عصرنا يشهد الاستخدام الذي لم يسبق له مثيل لوسائل الاعلام كأدوات لتعزيز مصالح الرأسمال المعولم. ولهذا فانه من الضروري إعادة النظر في أفكار ماركس لادراك مفهوم حرية التعبير في الاطار الفكري الذي حدده، وكذلك الدور البارز الذي مارسه كصحفي. فقد كتب ماركس كثيرا في مواضيع هامة مختلفة في القرن التاسع عشر (1842-1865) ليضيء النهضة الثورية التي هزت أوروبا وانتقلت الى أنحاء أخرى من العالم.

إن الدول الاستبدادية تصر على أن الناس "غير مؤهلين" للحريات السياسية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة. ويشير ماركس الى التناقض الذي يؤدي اليه هذا الموقف: "من أجل الكفاح ضد حرية الصحافة لابد من الحفاظ على موضوعة عدم النضج الدائم للبشر ... وإذا ما كان عدم نضج البشر هو الأساس الغامض لمواجهة حرية الصحافة، فان الرقابة هي، بالتأكيد، الوسيلة الأفضل لمنع البشر من النضج".

وبالنسبة للمدافعين عن الرقابة يكمن التعليم الحقيقي، حسب ماركس، في إبقاء المرء مقمّطا في مهده طيلة حياته، ذلك أنه إذا ما تعلم المشي فانه يتعلم السقوط، وإنه عبر السقوط، حسب، يتعلم الانسان المشي. ولكن إذا ما بقينا جميعا أطفالا في القماط فمن الذي يقمّطنا؟ وإذا ما بقينا جميعا في المهد فمن الذي يهز مهودنا؟ وإذا ما كنا جميعا في السجن فمن الذي سيكون حارس السجن؟"

وإذا ما فرضت الظروف أن الناس غير مؤهلية ليكونوا احراراً، فكيف يمكن لقسم واحد من السكان، وهو الحكام، أن يكونوا قادرين، بمعنى ما، على تجنب هذا المصير؟ ومن هم الشرطة الذين يحفظون النظام؟

ولعله من بليغ الدلالة التذكير بقول ماركس من أن "المقالات حول الظروف الاقتصادية الراهنة في إنجلترا، وفي القارة، في عامي 1857-1858، شكلت جزءا هاما من نتاجي في "النيويورك تريبيون"، بحيث أنه أصبح من الضروري بالنسبة لي أن أجعل من نفسي ملمّاً بالتفاصيل العملية التي هي خارج مجال الاقتصاد السياسي"، كما ينقل تيريل كارفر، الكاتب البريطاني المختص بماركس، في كتابه الموسوم (ماركس)، الصادر عام 2018 عن دار (بوليتي بريس).

مرحلة "النيويورك تريبيون"

لعله من المفيد الاشارة، ابتداء، الى أن كتاب ماركس (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) هو، في الأساس، مستمد من كتاباته في عامي 1848-1849 خلال الأحداث الثورية التي اجتاحت أوروبا. وكان نشر كتاب ماركس، في العدد الأول من مجلة (الثورة) الألمانية الشهرية التي أصدرها جوزيف فيديماير في نيويورك ربيع عام 1852، حدثا سياسيا بارزا.

ويقول ماركس في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه إن "من بين المؤلفات التي تناولت الموضوع نفسه، والتي ظهرت في ذات الوقت تقريبا مع كتابي هذا، إثنان فقط جديران بالانتباه هما (نابوليون الصغير) لفكتور هوغو، و(الانقلاب) لبرودون. أما فكتور هوغو فهو يقتصر على حملات لاذعة وبارعة النكتة ضد ناشر الانقلاب المسئول. والحادث نفسه يبدو في مؤلفه كأنه صاعقة في سماء صافية. وهو لا يرى فيه سوى عمل عنيف قام به فرد واحد. إنه لا يلاحظ أنه يعظم من شأن هذا الفرد، بدلاً من أن يصغره، بما نسب إليه من قوة مبادرة شخصية ليس لها نظير في تاريخ العالم. أما برودون فهو يسعى من جانبه إلى أن يصور الانقلاب وقد غدا، بصورة غير ملحوظة، تبريرا تاريخيا لبطله. وهكذا وقع في الخطأ الذي يقع فيه من نسميهم بالمؤرخين الموضوعيين. أما أنا فإني أثبت، على النقيض، كيف أن الصراع الطبقي في فرنسا قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكنت شخصا سخيفا متوسط المواهب من أن يؤدي دور بطل".

ولعله من بليغ الدلالة التذكير بما أورده ماركس في مفتتح كتابه إذ قال: "يقول هيغل في مكان ما إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز التعبير، مرتين، وقد نسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة. كوسيديير مكان دانتون، لويس بلان مكان روبسبير، "جبل" 1848-1851 مكان "الجبل" 1793-1795، إبن الأخ مكان العم. والصورة الكاريكاتورية نفسها تظهر في الظروف التي رافقت الطبعة الثانية للثامن عشر من برومير.

إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم بل في ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجؤون في وجل وسحر الى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة ..."

وإذا كان ماركس هو الفيلسوف السياسي الألمع والأكثر شهرة في زمانه وربما في سائر الأزمنة، فانه كان، أيضا، واحدا من ألمع المراسلين الصحفيين في القرن التاسع عشر. وخلال 11 سنة من إسهامه في الكتابة في صحيفة (النيويورك تريبيون)، التي بدأ نشاطه معها عام 1842، تناول ماركس عددا كبيرا من المواضيع، تمتد من قضايا الطبقة والدولة الى القضايا العالمية. وكانت كتاباته الآسرة تضيء، بشكل خاص، موضوعات الظلم الاجتماعي والجوع في بريطانيا، في حين تستكشف كتابات أخرى الآراء العميقة حول تجارة العبيد وتجارة الأفيون. وقد شجعت كتابات ماركس ومنظوراته الجديدة حول أحداث القرن التاسع عشر قراءه على التفكير، ويمكن القول إن كتاباته ماتزال تحتفظ براهنيتها على نحو مذهل.

وقد جمع الصحفي والمؤرخ الأميركي البارز جيمس ليدبيتر كتابات ومساهمات ماركس في صحيفة (النيويورك تريبيون) في كتابه الموسوم (مساهمات في نيويورك تريبيون – كتابات صحفية مختارة لكارل ماركس)، الصادر عام 2007 عن دار (بنغوين). وأجرى الصحفي والكاتب الأميركي ستيفن شيرمان في عام 2008 مقابلة هامة مع جيمس ليدبيتر حول محتوى وأهمية هذه الكتابات. وقد أعيد نشر المقابلة في موقع (جاكوبن) الأميركي اليساري بتاريخ 5 أيار 2018 بمناسبة الذكرى الـ 200 لميلاد ماركس.

وربما يعتبر الشيء الأكثر أهمية حول هذه الكتابات هو نشر مقالات ماركس في صحيفة أميركية. فكيف حدث ذلك؟

جاء عمل ماركس في (النيويورك تريبيون) بعد أن التقى صحفيا أميركيا هو تشارلز دانا، (الذي ترأس لاحقا صحيفة النيويورك صن)، في كولن عام 1848، وبعد سنوات عدة طلب دانا من ماركس أن يسهم بكتابة مقالات في (النيويورك تريبيون) حول الوضع في ألمانيا. ويعتقد ليدبيتر أن ماركس وإنجلز نظرا الى (التريبيون) كوسيلة لنشر آرائهما وإثارة نقاش في دائرة أوسع من القراء. ويضيف أنه ينبغي القول، أيضا، أن ماركس كان بحاجة الى المال. وكانت المكافآت التي حصل عليها ماركس من الصحيفة الأميركية قد شكلت الدخل الأكثر ثباتا بالنسبة لماركس (إذا استثنينا ما قدمه إنجلز له بانتظام).

بعض سمات صحافة ماركس

يمكن القول إن الكتابات التي نشرها ماركس لا تشبه معظم ما ينشر اليوم باعتباره صحافة، وفي نواحٍ عديدة لا تشبه، كثيرا، ما نشرته الصحافة الإنجلو-أميركية في القرن التاسع عشر. أي أنها لا تحتوي، في الجوهر، على ما يمكن أن نسميه اليوم "التقارير الصحفية". فقد كانت مقالات نقدية تستند، كما هو حال الكثير من أعمال ماركس، على مواد البحث المتيسرة لديه في المكتبة البريطانية. وهذا لا يعني القول إن كتابات ماركس لم تكن مناسبة لزمنها.

ولكن مقاربة ماركس الأساسية لعموده في (النيويورك تريبيون) هو تناول حدث راهن – الانتخابات، الانتفاضة، حرب الأفيون الثانية، اندلاع الحرب الأهلية الأميركية – والدخول من خلال ذلك الى بعض المسائل الأساسية في السياسة أو الاقتصاد، وانطلاقا من تلك المسائل يطرح أحكامه. وبهذا المعنى فان صحافة ماركس تشبه الكتابات التي تنشر اليوم في مجلات الرأي. وليس من العسير أن نرى رابطا مباشرا بين كتابات ماركس الصحفية وذلك النوع من الكتابة المقصودة حول القضايا العامة التي تميز الكثير من الصحافة السياسية (خصوصا في أوروبا) في عصرنا الراهن.

أما بشأن الانتفاضات فقد كان سحق ثورة 1848 في فرنسا وأماكن أخرى هو الحدث الأكثر أهمية من الناحية السياسية بالنسبة لماركس خلال حياته. وكان ذلك يسبق، بالتأكيد، ظهور الأممية الأولى عام 1864، وتأسيس كومونة باريس عام 1871. فبعد عام 1848 عرف ماركس قوة الثورة المضادة، وبدأ بالاعتقاد بأن الأنظمة القائمة للحكم والاقتصاد لا يمكن الاطاحة بها ما لم تجر تعبئة البروليتاريا المنظمة والواعية للقيام بذلك. وكما بات واضحا فان مثل هذا التنظيم كان، في الكثير من البلدان، بعيدا على مدى عقود، إذا ما وجد.

ومع ذلك فان قراءة كتابات ماركس في (التريبيون) تجعل المرء يرى إلحاحا وإثارة – ونفادا للصبر – في تصويره لبعض الانتفاضات والأزمات في أوروبا. وفي بعض الأحيان كتب كما لو أن هذا الارتفاع الخاص في أسعار الحبوب، أو المشادات مع السلطات في اليونان، سيكون الشرارة التي تشعل الثورة. ولم يكن الأمر كما لو أن المرء يخطّيء ماركس بسبب الشعور على هذا النحو. ومع ذلك فانه خلال هذه الفترة كانت تجري الاطاحة بالتيجان في أوروبا، ومن المحتمل أن بعض الثورات الليبرالية بدت محتملة في بعض الأماكن. ولكن كانت هناك أوقات بدا فيها أن أفكاره ربما كانت قد خذلته، كما أنه كان، أيضا، عرضة لاستنتاج أن الثورة لا يمكن أن تحدث الا إذا كانت الجماهير مستعدة لذلك، ولكننا لا نعرف، على وجه التحديد، ما اذا كانت الجماهير مستعدة حتى تخلق الثورة.

وأخيرا هل يمكن لكتاب (مساهمات في نيويورك تريبيون – كتابات صحفية مختارة لكارل ماركس) أن يعيد صياغة فهمنا لماركس؟

يجيب ليدبيتر بالقول: "نعم، بطرق معينة. أحدها أن قراء كتابات ماركس الاقتصادية والفلسفية قد يستنتجون أن ماركس كان مفكرا تجريديا، مهتما فقط بالنظرية، وهو منفصل عن القضايا المباشرة المحيطة به. ومن الطبيعي القول إن ماركس كان أكثر تجريدية من كثيرين، ولكنني أعتقد ان هذه الكتابات تؤكد أن ماركس كان مهتما بالتفاصيل بشغف، بل بالتفاصيل الصغيرة للحياة العامة في القرن التاسع عشر".

ومن المؤكد أن بعض المراقبين المعاصرين يجادلون، الآن، بأن انشغال ماركس بالكتابات الصحفية أثر، الى حد كبير، على عمله الآخر، الأوسع، وهذه مسألة جديرة بالبحث. ومن المعروف، من ناحية ثانية، أن الماركسيين المعاصرين يصورون اتجاههم الفكري باعتباره موضوعيا وعلميا، ومنفصلا عن التفكير العاطفي، الأخلاقي، الذي يحرك الليبراليين وسواهم. ومن المؤكد أن ماركس صور، في نصوص أخرى، عمله الخاص، باعتباره مرتبطا بالمنهج العلمي. ومع ذلك إذا ما نظر المرء الى انجازه للكتابة الأكثر إقناعا فانه سيجد أنها، عادة، منتشرة لصالح قضية تشبه، خارجيا، على الأقل، الدوافع الأخلاقية: إنهاء العبودية، إنهاء تجارة الأفيون والادمان عليه، التعبير عن إرادة الناس في الحكم، وإنهاء الفقر... إن هذه الكتابات تظهر، في الأقل، أن ماركس لم يكن، أبدا، مقتنعا بأن يستلقي ويدع التاريخ يأخذ مجراه. لقد كان يشعر بأنه مرغم على الاقناع، واستخدام ما يتوفر له من معلومات وأخبار كأدلة على أن نظرته الى العالم هي الأكثر عمقا.

إن الواقع يقودنا الى مسألة أساسية: يجري تدريس ماركس، اليوم، كمفكر اقتصادي ومفكر سياسي، وكذلك كمؤرخ وفيلسوف. وكل توصيف يتمتع بالحيوية، وكل توصيف هو، أيضا، غير مكتمل. غير أن السجل التاريخي يشير الى حقيقة أخرى: ينبغي التفكير بماركس باعتباره كاتبا محترفا وصحفيا. وليس كتاب ليدبيتر سوى نموذج في هذا السياق. فقد أنجز ماركس، بمساعدة إنجلز، ما يقرب من 500 مقالة لصحيفة (التريبيون)، وهو ما يشكل، تقريبا، سبعة من الأجزاء الخمسين للمؤلفات الكاملة للإثنين. وهذا ما يجعلنا نعتقد أننا أصبحنا أقرب الى فهم أهمية الخطاب في عمل ماركس إذا ما فكرنا به كصحفي.

عرض مقالات: