اخر الاخبار

لم تعد الجاليات العراقية تجمعات صغيرة متناثرة كما كان عهدها في عقدي الستينات والسبعينات، فبعد تلك السنين أضحت تجمعات كبيرة وتوزعت حول العالم لتشكل مجتمعات عراقية مصغرة تعد بمئات الآلاف في بعض الدول. ومع هذا العدد لابد ان تكون هناك اسباب تكمن خلف هذه الزيادة الكبيرة، ويأتي في مقدمتها هروب الناس من انظمة الاستبداد التي حكمت، والحروب الداخلية والخارجية والارهاب، وفي بعض الاحيان كان الهدف هو البحث عن حياة أفضل بخيار الهجرة. لكن ما جرى بعد العام ٢٠٠٣ حمل في طياته أسبابا جديدة للهجرة كان في مقدمتها الحرب الطائفية واستهداف ابناء المكونات الصغيرة الذين وجدوا أنفسهم بلا حامٍ بين ليلة وضحاها وصاروا تحت رحمة الميليشيات والعصابات التي استشرست بغياب القانون وسيادة المحسوبية والفساد الاداري في العراق.

هذا المشهد، وتنوع اسباب الهجرة وطول مدتها تركت ابعاداً مختلفة في طريقة تفاعل أبناء الجاليات مع أحداث العراق الداخلية، فمنهم من اختار الانغماس في الحياة الجديدة ومتطالباتها، ومنهم من لم يعد مهتماً أو مبالياً، وبقي قسم غير قليل مهتماً بالحياة العراقية ويتطلع إلى الغد القادم.

مزاج الناس ارتبط كثيرا بطبيعة التغيير الذي أنهى الدكتاتورية ونوعية القوى التي أتى بها المحتل وانتهاجها الطائقية التي أضحت سيدة المشهد السياسي مضافاً لها ضعف الدولة، ناهيك عن التدخل الخارجي الفظ في الشأن الداخلي عالمياً أو من قبل دول الجوار، بالترافق مع التشتت والضعف والوهن الذي أصاب الحركة الديمقراطية العراقية وانحسار حجم تأثيرها في الأحداث، كل هذه الوقائع لم تكن لتمر مرور الكرام على أمزجة وواقع الجاليات العراقية التي مازالت تحتفظ بصلات ووشائج عميقة مع الوطن.

لقد كان لانعدام الأفق في الاصلاح الموعود دور بقتل أي بصيص أمل لدى النسبة العظمى من أبناء الجاليات الذين لم يتوانوا عن الإفصاح عن يأسهم هذا في أحاديثهم أو كتاباتهم أو حتى مستوى اهتمامهم بالعراق الذي تراجع كثيرا، حتى أن البعض صار يقول “إن الشعب العراقي راض بالوضع” وقسم اتهم العراقيين بأنهم “جبناء” أو “ خانعون” وإنهم “يستحقون هذا النظام” لأنهم يعودون وينتخبوهم في كل دورة انتخابية!

نعم هذه الصور كانت شائعة جدا حتى يوم الأول تشرين الأول ٢٠١٩، حينما استفاق العراق ومعه الجاليات في الخارج على حركة جماهيرية غير مسبوقة بحجمها شملت بغداد وعدة محافظات عراقية تطالب بكل صراحة، بإسقاط العملية السياسية وأحزابها، وتنادي بمحاسبة السراق واسترجاع الأموال المنهوبة، وتدعو الى حل البرلمان وإقامة نظام انتقالي تقوده نخبة عراقية لا نتتمي لاحزاب السلطة.

إن هذه الجرأة والوضوح بالطرح، ونوع المشاركة الشبابية وروح الفداء والتحدي التي تميزت بها انتفاضة تشرين، والصور التضامنية الرائعة التي سطرتها الجماهير وسواق (التك تك) في ساحة التحرير وسوح البطولة في المحافظات المنتفضة، والمشاركة المشرفة للمرأة العراقية والطلبة، ليس في أيامها الاولى فقط، بل حتى بعد مرور أشهر عصيبة وصعبة وسقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، كان هذا كفيلا  بأيقاظ الروح الوطنية العراقية من جديد، وقد دفع نسبة عالية من أبناء الجاليات أن يعيدوا حساباتهم وموقفهم من الشعب العراقي أولا ومن شبابه ثانيا ومن فكرة التغيير ثالثا، إذ انهم تفاجأوا بالوعي العالي والتزام الانتفاضة بالسلمية وبمطالبها رغم محاولات العصابات الحاكمة شيطنتها أو جرها للمصادمة،  واصطفوا بكل ثقة خلف شعار الانتفاضة: نريد وطن!

نعم .. هذه الروح الجهادية أيقظت مجاميع هائلة من العراقيين بعد أن كانوا قد دخلوا في سبات عميق وتمكن اليأس من الكثير منهم، ففتحت أمامهم فرصاً لامكانية التغير، وعلى ضوء ذلك جاءت ردود الأفعال متنوعة ومتوازية بحجم ما كان  يجري في ساحة التحرير وشقيقاتها من سوح الحرية والتظاهر الأخرى، فظهرت كتابات التضامن وانطلقت التظاهرات والتجمعات التضامنية  حول العالم و أُنشدت القصائد الشعرية والأغاني وحتى التبرعات العينية والمادية، لا بل أن الكثير من ابناء الجاليات، سافروا للعراق لغرض المشاركة الفعلية بالانتفاضة في ساحة التحرير أو باقي السوح الثائرة.

مضت أشهر الانتفاضة التي اصطبغت بالدم والاغتيالات والخطف، فكشفت  بالملموس معدن الإجرام المتغلغل في القوى القابضة على السلطة وحجم خسة  دول الجوار والدول الاوربية وامريكا والأمم المتحدة والمنظمات المعنية بحقوق الانسان، التي التزمت الصمت المريب والمعيب تجاه ما جرى بحق المتظاهرين وأهاليهم، ولم تقدم على إدانة نظام القتلة في المنطقة الخضراء، أما الصدفة اللعينة فقد كانت بالمرصاد للثوار، إذ حدث وباء كورونا، فتوقفت الفعاليات بفعل الخوف من انتشار الوباء، وقيام السلطات والميليشيات بإستهداف سوح التظاهر وحرق خيمهم بدعوى الحفاظ عليهم من الوباء، فيما كانت كل المعطيات تشير إلى حجم الخوف والهلع والاضطراب الذي أصاب الاحزاب الحاكمة من فقدان سيطرتهم على الشارع وبالتالي سقوطهم المدوي على أيدي التشرينيين .

صحيح أن الانتفاضة بحجمها الذي انطلق قد تراجعت، لكن كل مقومات قيامها من جديد قائمة وحتى اللحظة، وهذا الأمر يعرفه المتظاهرون وأحزاب السلطة، وكل ما ينتظروه الآن هي الشرارة، وهذه قادمة لا محالة! فقتلة المتظاهرين لم يقدموا للعدالة رغم سقوط رمزهم عادل عبد المهدي، والفساد والتزوير وسرقة المال العام والبطالة وضعف الخدمات من كهرباء وماء مازال كما هو وأسوأ، اما التدخلات الخارجية السافرة فإنها تضيف للانتفاضة وقودا تستمده من أصالتها العراقية واستقلالية قرارها.

الجاليات العراقية، وعقب (البروفة) في الأول من تشرين الأول، وبعد أن شهدت بأم عينها حجم الخزين الثوري الهائل والكامن في الشعب العراقي والذي يشبه الدخان الذي يخرج من قمّة الجبل معلناً قرب انفجار البركان، مازالت تتطلع مثل أغلبية الشعب العراقي إلى التغيير الشامل وإقامة نظام ديمقراطي عادل يضمن الحياة الحرة والكريمة للعراقيين ويمنحهم أملا بالحياة والتقدم الذي يستحقه الشعب العراقي.

عرض مقالات: