تقول الناشطة الأمريكية- السوداء هيريات تبمان:" كل حلم عظيم يبدأ بحالم، وأتمنى ان تتذكر دائما انك تملك الشجاعة والصبر والرغبة، وحتى لو تطلب الأمر الذهاب الى النجوم من اجل تغير العالم نحو الأفضل، فأنك قادر على ذلك!"*، فرغم ان هذه الناشطة التي كانت من الناحية الرسمية (من العبيد) قد قالته بما لا يقل عن خمسين عاما من صدور اول صحيفة شيوعية عراقية يوم 31/7/1935، الا انه يحمل في دلالاته صلب الحقيقة التي تمثلت في تبوئ شعار" وطن حر وشعب سعيد" اولى المنشورات والمطبوعات الشيوعية العراقية، ومنذ ايام التأسيس الأولى.
عقود طويلة تفصلنا عن تلك الأيام التي لم نعد قادرين على وصفها نسبة الى ما وصل اليه حال العراق اليوم ونحن ندلف العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، وطن تتبارى فيه الوحوش البشرية على تبوئ اكثر المناصب التي تمكن اصحابها من السرقات الكبيرة، وطن ينوء ابناؤه وبناته تحت خطوط ادنى من خطوط الفقر العالمية، وتنخر الأمية جسده، فيما آثار الحروب والتفجيرات اليومية ما عادت بذات اهمية لعين الناظر الذي لا يأمل ولا يترجى سوى ان يعود سالما لبيته، لأنه لم يتذكر ان يودع عائلته هذا الصباح حينما غادر المنزل بقصد العمل او الوظيفة او الدراسة او حتى التسول في الشوارع العامة، في بلد البترول والميزانيات الترليونية الخيالية.
عملت الصحافة الشيوعية ومنذ خروجها للنور، "كمنفاخ حداد هائل" ــ كما يصفها لينين ــ، في بث وتعزيز الروح الوطنية والأستقلال، في الدفاع الأمين عن حقوق أكثر شرائح المجتمعة حاجة للتغير، الكادحين والمثقفين الثوريين، في تأصيل الحركة التنويرية للمجتمع بالأنفتاح على مكنونات الثقافة العراقية ومثقفيها، وبالتنوع العالمي الأممي. حرصت على محو الأمية وتعزيز انسانية الأنسان. نشرت الشعر والقصة والبحث العلمي، مشاكل المعلمين والعمال والفلاحين، ونقلت صورة حية للأحياء التي مازالت تصرخ لليوم طالبة حصتها من التبليط والكهرباء والمجاري. كانت ومازالت الصحافة الشيوعية العراقية أكبر مؤسسة (جامعة) لتخريج ليس الكوادر الصحافية فحســب، بل الكتاب والفنانين والأدباء والشعراء والمسرحيين وحتى العلماء والأطباء، ليس هذا فقط من الناحية الأكاديمية، بل ومناضلين اشداء من الطراز الفريد. تدربوا وتعلموا وتمرسوا على مهنة المتاعب في خضم الصراعات التي لم تهدأ لليوم في تقديم الحقيقة للجماهير، بيضاء ناصعة دون زيف او افتراء. عمل جيل المناضلين في شتى الظروف، تارة في السراديب او الكهوف، ومرة في البيوت او في المطابع العلنية، مرة بالرونيو ومرة يستنسخوها بأياديهم وبورق الكاربون، طريق طويل، كان قاسيا معظم الوقت وكان يكلف ســالكه حياته أكثر الأحيان. كان من الممكن ان ترتقي حبل المشنقة ليس لأنك تعمل محررا في جريدة (طريق الشعب) فقط، بل يمكن ان تحظى بذلك لأنك تقرأها او كنت تحملها في زمن ما! اما اليوم، وحينما نحصي اسماء الكتاب والصحفيين والمثقفين الذين تخرجوا من تلك المدرسة الوطنية، فلا يتملكنا الا الفخر والأعتزاز، فهكذا كان ديدن هذه الصحافة وهذا الحزب، مدرسة نموذجية في الوطنية والأخلاص والثقافة والعلوم والأنسانية، تكبر كلما يكبر تلاميذها وتزهو كلما يغترف منها احبتها.
لا نختلف كثيرا ونحن نشهد ما طرأ من تطور على الصحافة، طباعة وأنتشارا وأخراجا وتوزيعا في العشرين سنة الأخيرة، ومنذ ان صار الكومبيوتر يحل محل "عامل الطباعة" في اداء الكثير من ترتيب الحروف والصور وإخراج الصحيفة! لابل ان الأمور تنبئ بمفاجآت كثيرة على صعيد الصحافة الورقية المطبوعة التي صار المجهول مصيرها للسنين القادمة. ومما لا شك فيه ان عواملا تتجدد كل فترة يحسن بالمراقب ملاحظتها وملاحقتها ايضا ومنها على سبيل المثال: تنوع المصادر الإعلامية في هذا الوقت من خلال الأنترنيت والفضائيات والهواتف – الموبايل- ووسائط التواصل الأجتماعي الأخرى، مما يجعل اخبار الجرائد قديمة (نسبيا) لما موجود عبر الأثير، والشئ الآخر هو دراسة وضع ونفسية المواطن ايضا. فأنسان اليوم متعب ومهموم والحياة تجري معه سريعة في معظم الأحيان، ويمكن للأمية ان تكون عاملا يحد من شراء الجريدة، او حتى انتشار الناس في رقع جغرافية كبيرة تحول دون وصول المطبوع في وقته المحدد، ناهيك عن ارتفاع تكاليف الطباعة والورق والعمل والنقل مما يضيف عبئا آخرا على كاهل اصحاب الدخل المحدود في الوقت الذي يستطيع فيه ان يسمع الأخبار ويشاهدها ومن أكثر من مصدر ولحظة بلحظة عبر الفضائيات ..... مجانا!
في الوقت المنظور يمكن للصحافة الورقية ان تستمر لكن بتكلفة مالية أكبر، وممكن لقرائها ان يتناقصوا ايضا، لكنها باقية، وستعتمد كثيرا على الشيء المتميز بنتاجاتها ان كان في التحقيقات الصحفية او النشر الثقافي والأدبي او في ملاحقة الملفات التي تخص شرائح مهمة في المجتمع، الصحافة ستتنازل عن تربعها على عرش الخبر المقروء لتكون جزءا من كل، بعد ان كانت الكل، جزءا من الأنترنيت والفضائيات واليوتوب والتويتر والموبايل وربما لأدوات تواصل جديدة قادمة.
وحتى لانكون في آخر الركب، فأن المعنيين في شأن الشأن الصحفي (طالما نحتفل اليوم في ذكرى صدور او صحيفة شيوعية عراقية عام 1935) مدعوون اليوم وأكثر من اي وقت مضى للنظر في شأن الصحافة نظرة ممزوجة باستكشاف آفاق المستقبل والتنبؤ بمتطلبات العمل الأعلامي (وليس الصحفي فقط)، من اجل التواصل الحقيقي مع الثورات التكنلوجية العارمة التي دخلت عالم النشر والأعلام، ومن اجل استيعاب الدور التي تقوم به الأدوات الأعلامية المستحدثة. فأذا كان الهدف من "الجريدة" هو نقل الخبر، وايصاله مع تثبيت الموقف منه وإعطاء البديل والتواصل مع البشر، فأن الفضائيات والمواقع الإلكترونية في الأنترنيت والهواتف الخلوية وأدوات التواصل الأجتماعي تقوم بذلك وبأحسن صور، وبسرعة فائقة وبتكلفة زهيدة جدا ان لم اقل مجانية. ان هذا الموقف المسؤل هو الذي سيضع الصحافة الشيوعة العراقية في مصاف باقي وسائل الأعلام المتوافرة اليوم، وحتى وأن كانت الأمكانيات المالية محدودة، فعلينا ان لا نسقط الأبداع، والفكرة الجديدة والجريئة، وعلينا ان نفكر دائما بأن احداثا تأريخية كبيرة جرت لكن بداياتها كانت بسيطة، وحينما نتحدث عن ثورات الربيع العربي وأهتزاز انظمة قاومت شعوبها لعشرات السنين، فأننا نتذكر جيدا، (الفيس بوك) و (التويتر) و ( اليوتوب) و (الخلوي) ، ولا نتحدث عن الصحافة الورقية، وهذا بحد ذاته هو بارومتر ومؤشر ربما يساعد اصحاب القرار على التوقف قليلا وأعادة النظر في طريقة ادارة ملف الأعلام كاملا وليس الصحافة الشيوعية فقط.
ومن اجل ان يكون للذكرى طعمها الزكي، سيكون من اللائق ان ننحني اجلالا وأكبارا لشهدائها، من محررين وطباعين وشغيلة ، من العمال الذين كانوا بنقلوها، والى اصحاب القضية الرئيسية، القراء ايضا، والى كل من كحل عيونه بأحرف حملتها له صحف ( كفاح الشعب، الشرارة، القاعدة، اتحاد الشعب وطريق الشعب)، اليهم في هذا اليوم وكل يوم، نؤكد لهم صدق نوايانا وأصرارنا على ايصال الحقيقة ايا كان ثمنها للكل، بأمل ان يعي المواطن والمثقف والمسؤل بأن القتل والأرهاب والتغييب وأستعمال القوة لن يثني الناس عن اكمال مشروعها، بل بتبني مشروع البناء السلمي للوطن وأحترام حقوق الأنسان وأطلاق طاقات منظمات المجتمع المدني، هي الكفيلة في نقل هذا الوطن للضفة الأخرى الآمنة.
هذي امانينا المتواضعة نؤكد عليها مرة اخرى في ضرورة مراجعة كل المنظومة الأعلامية بغية الحفاظ على أفضل اواصر التواصل مع المواطن، في الدفاع عن مصالحه او في ايصال أرقي نتاج البشرية اليه، وربما يكون اليوم او في العام القادم او بعده مناسبا، لو بادرت ادارة طريق الشعب او دار الرواد المزدهرة، بتهيئة نصب تذكاري او جدارية تذكارية لشهداء الصحافة الشيوعية العراقية، ممن لم تشملهم قوانين (السلطان) في الرواتب والامتيازات! وليكن امتيازهم الأكبر هو هذا الأستذكار وهذا التكريم. تحية للقلم الحر الذي لم تثنه الصعاب ولا اغرته ألوان الدولارات، بل بقي امينا على قضيته السامية.