اخر الاخبار

لم تمثّل الاحتفالات الرسمية والشعبية، بمناسبة التاسع من آيار، الذكرى السنوية للانتصار على الفاشية، والتي جرت في العديد من عواصم دول العالم وفي مقدمتها موسكو، مجرد وفاء للتضحيات الهائلة التي قدمتها شعوب الاتحاد السوفيتي وحلفائه وكتائب المقاومة الشيوعية والديمقراطية في الحرب العالمية الثانية، بل وأيضاً استذكاراً لدروس تلك المأثرة والتي تحتاج البشرية اليوم أن تتفحصها وتتمعن بها، وهي تواجه تصاعد الفاشية الجديدة وهيمنة اليمين الرجعي الاستبدادي على الحكم والسياسة في مراكز القرار، كما هو الحال في البيت الأبيض وروما وبودابست وبوخارست وبوينس آيرس ونيودلهي غيرها، وما يثيره هذا التصاعد وتلك الهيمنة من مخاوف كبيرة على السلام العالمي، لما تضمره أو تعلنه هذه القوى المتطرفة من أهدافها في القضاء على الحريات وشرعنة العنف في مجرى الصراع الطبقي واستعباد الشعوب بالاستخدام التعسفي للقانون الدولي أو عبر تأجيج سباق التسلح والتهديد باستخدام أسلحة الدمار بدون أي اعتبار للحياة على الأرض، إضافة إلى الاستهتار بالبيئة وتشديد الممارسات التي تزيد من تلويثها والإنكار الوقح للتغييرات الخطيرة في المناخ، وتبرير البؤس الذي تنشره في كل مكان، وإضفاء القدسية القومية والدينية على ممارساتها البشعة.

سباق التسلح

ولعل المتغير الأخطر الذي يقلق شعوب العالم وقواها الحية، هذا السعار الهستيري الذي راح يحجب بسحبه الداكنة برامج العسكرة من جهة وهذا النمو السريع في التصنيع العسكري من جهة مكملة. ورغم إن هذا السعار راح يشمل حتى الدول الصغيرة جراء خشيتها من العبودية للكبار، فإن الأرقام التي تقدمها المؤسسات الأكاديمية المستقلة تشير بدقة إلى مسؤولية الدول الإمبريالية عن ذلك، وتدينها باعتبارها السبب الأبرز في تأجيج هذا السباق وتهديد أمن البشرية للخطر الذي يمكن أن يبيدها.

فبعد أن نجحت واشنطن في توسيع الكتلة العسكرية التي تأتمر بأمرها، وذلك من خلال ضم جميع دول حلف وارشو السابق ماعدا روسيا لها (49 دولة)، في نقض صارخ لجميع التعهدات التي حصل عليها غورباتشوف حينها، عمدت إلى تركيع الأنداد من أعضاء هذه الكتلة نفسها، وسلبت منهم قدرتهم على أن يكون لهم رأي مختلف حتى ولو كان في بعض التفاصيل. وما الاشتراطات التي فرضها ترامب على دول الاتحاد الأوربي وتدخله المباشر حتى في سياساتها الداخلية (1) سوى أمثلة على ذلك. ثم تخلت الولايات المتحدة عن العديد من معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية مثل اتفاقية مناهضة الصواريخ الباليسيتية 2002 ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى في 2019، ومعاهدة السماء المفتوحة 2020 (2).

وترافقت مع هذا كله زيادة غير مسبوقة في الإنفاق العسكري الحقيقي للولايات المتحدة، لتبلغ 1537 مليار دولار أمريكي، وهو رقم يعادل ضعف ما تصرح به علناً الحكومة وما رصده معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (3)، الذي سجّل زيادة في الانفاق بنسبة 14.5 في المائة، أي بما يعادل 6 في المائة من ناتج واشنطن المحلي الإجمالي، وبأكثر من أربعة أضعاف الصين التي تليها في الإنفاق، رغم إن الأخيرة تفوق الأولى بأربع أضعاف عدد السكان (4). ويبين الرسم رقم 1، الفرق الكبير بين الإنفاق العسكري في الكتلة التابعة للمراكز الامبريالية والذي يمثل 74.3 في المائة من كل النفقات العسكرية في العالم والإنفاق العسكري في الدول من خارج الكتلة.

القواعد العسكرية في الخارج

وتشكل القواعد العسكرية في العالم مؤشراً خطيراً على السياسات العسكرية التي تهدد السلام، كما تستنزف الكثير من الدخل القومي وتمثل سبباً رئيسياً للاقتراض وبالتالي التقشف الذي يرهق الشعوب وتصفية أو تقليص مكتسبات دولة الرفاه. كما تعكس أعداد هذه القواعد وأماكن انتشارها الطبيعة العدوانية للإمبريالية.

 وحسب الإحصائيات، فإن هناك 902 قاعدة عسكرية للولايات المتحدة (ثلثها في الدول التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية) و145 قاعدة عسكرية للمملكة المتحدة (5). ولا تشمل هذه الإحصائيات منشآت ومواقع العديد من المهام العسكرية المخصصة والأراضي التي تنازلت بعض الحكومات عن سيادتها لصالح الأمريكان والمواقع التي تسيطر عليها محطات وكالة المخابرات المركزية وغيرها من النشاطات السرية (الشكل رقم 2).

كما تبين المعطيات بأن الولايات المتحدة تمتلك ما يقارب 50 ألف مبنى داخل حدود دول أخرى، حيث تبلغ مساحة الأراضي التي تقف عليها هذه البنايات 245 مليون متر مكعب. وقد استخدمت الدول الإمبريالية هذه الأماكن في جميع عمليات نشر قواتها، وغالباً دون موافقة حقيقية من قبل الدول التي "تستضيف" هذه المباني. ويوضح الجدول رقم 1 عمليات الانتشار التي تشملها هذه المعطيات والتي تمت خلال الخمس سنوات الماضية، وكانت تستهدف كما يبدو في أغلبها منطقة الشرق الأوسط (6).

لقد نفذت الولايات المتحدة 100 تدخل عسكري على مستوى العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي و 100 تدخل عسكري آخر في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة (7).

ويتضح مما تقدم بأن الهدف الرئيسي لتأجيج الولايات المتحدة لسباق التسلح محاصرة روسيا والصين، باعتبارهما من أقوى الدول ذات القدرات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية ومن أكثرها امتلاكاً للطاقة والمنتجات الغذائية من جهة، والاعتماد على التفوق والهيمنة العسكرية لتعويض التراجع المستمر في النمو الاقتصادي والهيمنة السياسية لواشنطن عالمياً من جهة أخرى.

تقييد تجارة السلاح

وفي سياق متصل، ووفق معهد أبحاث السلام السويدي، فإن الدول الإمبريالية الأعضاء في الكتلة العسكرية هي الأكثر تصديراً للسلاح، حيث تهيمن على أكثر من 62 في المائة من سوق السلاح (جدول رقم 2). ورغم قيام الأمم المتحدة بفرض 14 حظراً على توريد الأسلحة، وفرض الاتحاد الأوربي 22 حظراً والجامعة العربية حظراً واحداً، فقد استغلت الحرب في أوكرانيا لتبرير عدم الالتزام بذلك، فيما تراجع الاهتمام بأنظمة الرقابة على تصدير وتوزيع السلاح، بسبب التوترات الجيوسياسية وتفاقم الاستقطاب العالمي.

معالم السياسة العدوانية لواشنطن

وتكشف أية قراءة للسياسة العدوانية التي تتبعها واشنطن بأن الهدف الرئيسي لها توفير التكامل الداخلي ضمن الكتلة العسكرية وبقاؤها مذعنة للولايات المتحدة من جهة وشن حرب باردة جديدة لاحتواء الصين وخلق الظروف اللازمة لتقطيع أوصالها وللإطاحة بنظامها كعدو استراتيجي أساسي من جهة أخرى. وهناك في الهدف الثاني مكان جلي لروسيا، وإن بمستوى أدنى.

وتستخدم واشنطن في هذه السياسة إنكار العهود المتفق عليها والتخلي عنها، وحجب هذا التخلي غير الشريف، بدخان التضليل، الذي تمارسه آلاف المؤسسات الإعلامية والسياسية والثقافية وغيرها، الأجيرة لدى البيت الأبيض. كما تدخل في سياق هذه السياسة محاولات افتعال العديد من القضايا التي تهدد الأمن القومي لموسكو وبكين، كما حدث في أوكرانيا وتايوان، لجر البلدين إلى حروب صغيرة منهكة. كما تدخل فيه مجموعة التدريبات التي يجريها الجيش الأمريكي مع الفلبين واليابان وأستراليا، ومحاولة استثمارها في خلق مواجهات واحتكاكات خطيرة مع الجيش والبحرية الصينية. ورغم نجاح الصين في ضبط النفس، فإن الأمور تبقى مقلقة بشكل كبير ليس للصين فحسب، بل ولكل دول المنطقة.

من مهام قوى السلام

إن كل القوى الحريصة على حق البشر في الوجود وفي الحرية، باتت موقنة من أن الإمبريالية الأمريكية وشركاءها في الكتلة العسكرية، هي التي تؤجج سباق التسلح وتنشر القواعد العسكرية خارج حدودها ولا تلتزم بالقانون الدولي وبالاتفاقيات الخاصة بحماية الأمن الدولي. ويفرض هذا الاستنتاج على هذه القوى والدول، العمل على المزيد من التعاون الأمني والتكامل الاقتصادي الإقليمي، وتقليل الاعتماد على الدولار في التجارة الدولية، و تعزيز الابتكار التكنولوجي، ومعالجة فخ الديون، و ضمان حق الشعوب والدول في تحديد سياساتها الزراعية والغذائية، و تعزيز القدرة على التحكم في المساحات الرقمية في الأجهزة والبرامج والبيانات والمحتوى، وبناء بدائل للمنصات الرقمية المحتكِرة من قبل الولايات المتحدة، وامتلاك خطط علمية متطورة لحماية البيئة، وإرغام الدول الإمبريالية التي سببت التغيرات المميتة في المناخ، على تمويل مشاريع الحد من التلوث.

الهوامش

  1. راجع تصريحات ترامب حول السياسة الداخلية لألمانيا والدنمارك وحتى السويد.
  2. رابطة الحد من الأسلحة، كانون الأول 2020، https://www.armscontrol.org/act/2020-12/news/us-completes-open-skies-treaty-withdrawal؛
  3. Monthly Review, 1 November 2023, https://monthlyreview.org/2023/11/01/actual-u-s-military-spending-reached-1-53-trillion-in-2022-more-than-twice-acknowledged-level-new-estimates-based-on-u-s-national-accounts/
  4. بيانات صندوق النقد الدولي ومعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام لعام 2022.
  5. https://worldbeyondwar.org/no-bases/ 27 تشرين الثاني 2023.
  6. راجع بربارة سالازار توريون 2023 في الرابط:

https://crsreports.congress.gov/product/pdf/R/R42738

  1. راجع كودمان وويلاند 2022 , https://www.csis.org/analysis/securing-asias-subsea-network-us-interests-and-strategic-options.