ليس الرثاء عند الشاعر موفق محمد مجرّد غرض شعري، بل هو خيطٌ دامٍ يمتدّ من قلب مفجوع إلى قلب وطنٍ مصلوب. وهو حين يرثي ولده الذي اختطفته المقابر الجماعية، لا يكتب قصيدة، بل يصرخ، ينزف، ويشهق بالكلمات كما يشهق المذبوح.
في قصيدته الشعبية المؤلمة: "ميت أنا"، لا يسرد حكاية فقط، بل يسكن في رمادها، في ترابها، في الظلمة التي لا يعرف لها شروق.
الرثاء الصادق هو ما لا يُصاغ، بل ما يُجترح. لا يصدر عن عقل شاعر، بل عن وجع أب. ومهما تعدّدت قصائد الرثاء في تراثنا، فإن لمراثي الآباء لأبنائهم طعمًا آخر، مزيجًا من الذهول والرفض والتكذيب القاتل. هكذا نقرأ رثاء موفق محمد، ونشعر أننا أمام لطمات تُلقى على صدر الوطن لا على صدر الأب وحده.
القصيدة تنطلق من العنوان: "ميت أنا"، وهي ليست مبالغة شعرية، بل حقيقة نفسية. فالحيُّ الذي يرى ولده يُغتال دون قبر، يُعدم دون خبر، يُغيّب دون أثر، لا يعود حيًا إلا بالاسم.
"ميت آنه .... ولا خط يجي عن موتك
سودة وحشتك يَولِدي حرموك من تابوتك"
الغياب هنا مضاعف: غياب الجسد، وغياب الأثر، وغياب الرسالة. حتى الموت لم يُمنح كرامته. لا تابوت، لا قبر، لا وداع. هكذا يكون الرثاء نكبة مزدوجة، لا تبكي الغياب فقط، بل الطريقة التي غاب بها الحبيب، غيابًا غليظًا فظًا بلا رحمة.
ثم تتحوّل صورة الابن إلى أيقونة سماوية:
ما ناح طير اعلى الشجر إلّا اعلى نغمة صوتك"
الابن المغدور صار طيرًا مغنيًا، ونغمته باتت حُزن الأشجار، طيفه حاضر في كل تنهيدة، في كل غصن، في كل جناح يخفق. لكنه، في ذات الوقت، جرحٌ مفتوح في قلب الأب:
"الگلب صاير كربلة ولا خط يجي عن موتك"
ها هنا تتجسد ذروة الألم: أن يتحول قلب الأب إلى كربلاء... وكأنَّ الفاجعة ليست ذكرى عاشورائية تمر، بل تتكرّر كل صباح. الجراح ذاتها، المأساة ذاتها، الطغيان ذاته، والسكاكين لم تزل ساخنة.
ثم تتصاعد مرارة القصيدة حين يتذكّر الشاعر المصير المفجع لابنه:
"ياحلم ما رد لـهله وصدره رصاص ومنقلة"
ما أقسى هذا المشهد: الحلم نفسه لم يعد، الصدر مخروق، والرصاص طبعَ عليه ختم الفقد الأبدي. وكأن القصيدة تسأل: كيف لحلم أن يُقتل هكذا؟ كيف لطفل، لشاب، لولدٍ خرج من رحم الحب، أن يُدفن في ليل المقابر بلا شاهد ولا شمعة؟ الرثاء هنا لا ينحصر في خاصرة الأبوة. إنما يمتدّ ليشمل الوطن الجريح.
وفي نشيج مدمى يقول:
إبموس الخناجر تاكل بلحمه وتفطر النجمه
عميه وتدور رويحتي إبيا بير أدوّر يمّه
وما ظِن بعد تطلع شمس وتزول هاي الغمّه
وفرﮔاك فتّ إمرارتي وضاﮔت عليّه الـﭽلمه
لا ﮔبر وتهدّل إله
وألهم ترابه وأسأله
انه تصوير لحالة من الحزن العميق والضياع بعد فقدان شخص عزيز، وقد استخدم الشاعر مشاهد قوية ومشحونة بالرمز والأسى لتجسيد ذلك: إذ يبدأ بإحساس قاتم يُخيّم على القلب والعالم، حيث الظلمة تعمّ، والقمر نفسه ينزف، مما يدل على عمق المصاب. ويصف الفقد بطريقة عنيفة، كأن الموت لم يكن مجرد رحيل بل تمزيق مؤلم، حتى أن النجمة، رمز النقاء، تشارك في التهام الجسد.
وتهيم الروح باحثة عن المفقود في الأعماق، بلا هدى ولا بصيص من الأمل، فالشمس نفسها – رمز الرجاء – لا يُنتظر طلوعها. ويبلغ الألم ذروته حين يتمنى حتى وجود قبر يبكي عنده، فيخاطب التراب، ويشبّه قلبه بساحة كربلاء، دلالة على الفاجعة. فيما يختم بالخذلان الكامل: لا خبر، لا أثر، لا عزاء، وكأن الموت وقع في صمت مطبق لا يترك مجالًا للتصديق أو التماسك.
إنه صدام حسين ونظامه الذي لا يكتفي بالقتل، بل يتلذذ به. وكل ضحية تُضاف إلى سجلّه لا تكون فردًا، بل وطنًا صغيرًا يُذبح في الظلام. حتى الدفان تعب:
"ما تخلص گبور البلد دفان ينخى بدفان"
نعم، إنه رثاء لا يُراد له أن يُنشد فحسب، بل أن يُصرخ، أن يُبكى، أن يُتلو في المآتم والمجالس، لأنه لا يرثي شابًا فحسب، بل يرثي جيلًا دفنته الطغمة، وأمًّا حرمت من التشييع، وأبًا صار قبرًا يمشي:
"إنچان متّ بلا گبر آني گبر يتمشّى"
أي بلاغة تلك؟ وأي صورة أكثر إيلامًا؟ لم يُدفن الابن، لكن الأب صار قبرًا متنقلًا، حاملًا ضريحه في قلبه، يمشي والرماد في عينيه، والحسرة على كتفيه، ولا نهاية لهذا العذاب.
قصيدة موفق محمد لا تُقرأ كما تُقرأ القصائد، بل تُلطم كما تُلطم الخدود في مأتم دامٍ. وهي شاهد حي على أن الرثاء، حين يخرج من نياط القلب، يصبح أكثر صدقًا من التاريخ، وأبلغ من الخطب، وأشد تأثيرًا من كل المجلدات.
ختامًا، فإن هذا الرثاء ليس مجرد حزن، بل إدانة، وثيقة جرح، شهادة دامغة على واحدة من أبشع جرائم الأنظمة القمعية في العصر الحديث. وإن كان الابن قد مضى، فإن صوت الأب سيبقى حيًا، يطارد الطغيان، ويُنبّت القصاص من الدموع.
في رحيله اليوم، طوى الشاعر العراقي موفق محمد الصفحة الأخيرة من سِفرٍ كان فيه الألم قصيدته الأصدق، والفقد جمره الأبدي. رحل صاحب "ميت أنا" تاركًا في أعماق الشعر نداءً لا يخبو، وجرحًا لا يندمل.
فهل سيكون له هناك لقاء؟
هل سيعانق ابنه الذي خطفته المقابر الجماعية، ويواجه وجوه قاتليه التي لطالما أرّقته في اليقظة والمنام؟
يقال إن للمظلومين يومًا ينصفهم، وإن للمقهورين موعدًا في ضفةٍ أخرى، لا تعرف القتل ولا الظلم.
وسيأتي ذلك اليوم وذلك الموعد شاء القتلة الغادرون أم أبوا.