اخر الاخبار

تواجه البلاد اليوم أزمة مالية متفاقمة، لا يمكن تجاهلها أو التهوين من تداعياتها، خصوصاً في ظل استمرار انخفاض أسعار النفط، المصدر الرئيسي لعوائد الدولة. وفي وقت يمسّ فيه القلق جميع طبقات الشعب، فإن أقل ما ينتظر من الحكومة هو قدرٌ عالٍ من الشفافية والمصارحة، بعيداً عن التصريحات المضللة أو التطمينات الشكلية التي لا تستند إلى وقائع ملموسة. فالشعب الذي يتحمل تبعات الأزمات على الدوام، يستحق أن يخاطب بصدق، لا أن يحمَّل وزر أخطاء لم يكن طرفاً فيها، ولا شريكاً في صناعتها. الإنفاق الحكومي ما زال يتضخم عاماً بعد آخر، لكنه لا يتجه بالضرورة نحو القطاعات الحيوية أو الخدمات الأساسية. بل بات واضحاً أن توزيع الموارد يتم بطريقة مبعثرة، تفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي والرؤية التركيبية المتماسكة. تصرف الموازنات على مشروعات لا تتكامل، بل تتضارب في أهدافها أو تركن لاحقاً في رفوف النسيان، في حين تظل الأولويات الحقيقية – من صحة وتعليم وبنية تحتية – إما مهملة أو ممولة تمويلًا هامشياً. ومع تزايد العجز في الموازنة، تلوح في الأفق خيارات لا مفر منها، على رأسها اللجوء إلى الاقتراض لسد الفجوة، وهو ما يعني، ببساطة، ارتفاعاً جديداً في المديونية العامة.

المديونية، كما أثبتت التجارب القريبة والبعيدة، ليست رقماً عابراً في دفاتر الحسابات، بل قيد ثقيل على عنق الاقتصاد الوطني. إنها التزام طويل الأمد يستنزف مقدرات الدولة أكثر مما يضيف إليها، حيث تُستنفد نسبة معتبرة من الإيرادات المستقبلية في خدمة فوائد الديون بدلاً من توجيهها نحو مشاريع تنموية تمس حياة المواطنين. بهذا الشكل، تتحول المديونية إلى أداة تقييد لا تحفيز، تعرقل حركة الاستثمار العام وتزيد هشاشة السيادة الاقتصادية. الأسوأ من ذلك أن الحكومة قد تلجأ إلى حزمة من الإجراءات التقشفية التي، وإن بدت حتمية من منظور المحاسبة، إلا أنها ستضاعف الأعباء المعيشية على المواطنين، خصوصاً في ظل تآكل القدرة الشرائية وغياب شبكة حماية اجتماعية فعالة. وليس سراً أن هذه الحكومة تفتقر إلى المصداقية الكافية لتطلب من الشعب مزيداً من الصبر؛ فهي مثقلة بإرث من الفساد والمحاصصة وسوء الإدارة المالية، الذي أطاح بثقة الناس في مؤسساتها.

أمام هذا المشهد، هناك حاجة ملحة إلى مبادرة عقلانية تبدأ أولًا بمراجعة هيكل الإنفاق الحكومي وضبطه وفقاً لأولويات اجتماعية واقتصادية واضحة، تضع مصلحة المواطن في القلب منها. وثانياً، لا بد من تشكيل لجنة اقتصادية مستقلة من خبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، تتولى تقديم خارطة طريق شاملة للخروج من الأزمة، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة. الشفافية والإصلاح الحقيقي لم يعودا ترفاً؛ بل شرطاً أساسياً للبقاء.