اخر الاخبار

حين يمر علينا يوم 31 آذار، تعود بنا الذاكرة إلى لحظة التأسيس الأولى منذ عام 1934، إلى ذلك القرار الذي لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل كان بداية لحلم، لصوت ارتفع من قلب الطبقة الكادحة، من معاناة العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، ليعلن أن هذا الوطن يستحق العدالة، يستحق الحرية، يستحق شعبه أن يحيا بكرامة. 91 عاماً مرّت منذ أن ولد الحزب الشيوعي العراقي، 91 عاماً من النضال، من العطاء، من الأمل المتجدد رغم كل العواصف التي حاولت اقتلاعه.

لم يكن الحزب بالنسبة لي مجرد إطار سياسي، بل كان المدرسة الأولى التي تعلمتُ فيها معنى الوطن، لا كشعار يرفع في المناسبات، بل كحقيقة تُعاش يومياً، تُدافع عنها بالأفعال قبل الأقوال، وبالتضحيات قبل الادعاءات. تعلمتُ من خلاله أن حب الوطن ليس كلمة، بل موقف، وليس ادعاءً، بل التزامٌ يتجسد في السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية، في الانحياز إلى الفقراء، في مواجهة الظلم، مهما كان الثمن. إن الحزب لم يكن يوماً مجرد تنظيم، بل كان طريقاً نحو وعي أعمق بالوطن، طريقاً أدركت من خلاله أن الحرية ليست منحة، بل انتزاع، وأن الحقوق لا تُوهب، بل تُؤخذ بالنضال والصمود.

لقد تربيت في داخله، كما تربى كثيرون غيري، وكان انتمائي له أشبه بانتماء الشجرة إلى الأرض التي تغذيها، أو انتماء النهر إلى مجراه. كان فضاءً رحباً يتسع لنا جميعاً، بأخطائنا قبل صوابنا، باندفاعنا قبل نضجنا، لم يكن يوماً سجناً للأفكار، بل فضاءً للحوار والتطور. كيف يمكن للمرء أن يتخلى عن شيء صار جزءاً من وجدانه؟ كيف يمكنه أن يدير ظهره لقيم زرعها في روحه منذ خطواته الأولى في درب الوعي؟ لا يُمكن أن نخذل ما أعطانا اليقين بأن التغيير ممكن، وبأن الإنسان قادر على صنع مصيره رغم كل القيود.

لكنني، وأنا أقف اليوم في ذكرى تأسيسه، أعترف أمامه، أمام تاريخه الطويل، وأمام أرواح من ضحوا لأجل فكرته النبيلة، أنني لم أكن دائماً على قدر المسؤولية. ربما غفلتُ في لحظات كثيرة عن فهم الوعي في عمقه، وربما لم أدرك تكتيكاته في حينها، ربما كنتُ متسرعاً في أحكامي، أو ساذجاً في بعض استنتاجاتي، وربما ظننتُ أن الطريق أكثر وضوحاً مما هو عليه في الواقع. لكنني، رغم كل شيء، لم أفقد الإيمان به، ولم أفقد الإيمان بأن هذا الحزب، الذي عَبَر كل المحن، لا يزال صادقاً في غايته، ثابتاً في مبادئه، حتى وإن تغيرت التكتيكات وتبدلت الأدوات.

إنه كنهرٍ يجري، لا يعرف التوقف، ولا يسمح لشيء بأن يُجففه. قد يُحاصر، قد يُحاول البعض أن يقطع مجراه، لكنه دائماً يجد طريقة ليواصل التدفق، ليمنح الحياة لأولئك الذين يحتاجونه. الحزب ليس مجرد ماض ٍ نحتفي به، بل هو مستقبل يتشكل، هو فكرة لا تموت لأنها مغروسة في قلوب من عرفوا أن لا طريق سواه لتحقيق العدالة. في كل مرة يُظن أنه انتهى، يعود أكثر قوة، أكثر شباباً، أكثر انسجاماً مع الزمن الجديد.

وهو أيضاً سفينة، تبحر وسط العواصف، لكنها لا تنحرف عن مسارها. كم من ريح حاولت أن تُغرقها؟ كم من موجٍ عالٍ حاول أن يجعلها تتيه في المجهول؟ لكنها بقيت، لأنها تحمل أناساً لم يأتوا للرحلة بحثاً عن مكاسب، بل جاؤوا لأنهم مؤمنون بأن الضفة الأخرى تستحق العناء، بأن شاطئ الأمان ينتظر أولئك الذين لا يخافون مواجهة البحر، ولا يهابون الظلام. في هذه السفينة، لا يوجد ركاب، بل طاقم يقاتل ليصل إلى الهدف، ليصل إلى وطن لا يُقمع فيه الصوت الحر، ولا يُسحق فيه الإنسان تحت عجلة الاستغلال والفساد.

في ذكرى تأسيسه الحادية والتسعين، لا نقف فقط لنتذكر، بل لنؤكد أن هذه المسيرة لم تنتهِ بعد، وأن هذا الحزب الذي أسسه الشهداء والمناضلون لا يزال على العهد، لا يزال يرفع رايته، لا يزال يواجه التحديات، ليس لأنه لا يخطئ، بل لأنه يتعلم من أخطائه، وينهض من كل عثرة أقوى. هو النهر، وهو السفينة، وهو الحلم الذي لا يشيخ، وهو الأمل الذي يتجدد، من أجل وطن حر، وشعب سعيد.