صدر قبل فترة كتاب للصحفي بارتل بول تحت عنوان (أرض ما بين النهرين)، استعرض فيه ماضي هذه البلاد على مدى 5000 سنة والتاريخ المشترك لسكانها وذلك قبل فترة طويلة من قيام القوى الاستعمارية برسم حدودها.
ومن أجل تخفيف حدة السرد، ركز الكاتب في عدة فصول على الفرد – البطل، الذي يمكنه إنارة الموضوع بشكل واسع. فلتوضيح الحياة في القرون الأولى، يسرد بول الملحمة القديمة للملك السومري جلجامش، الذي سعى إلى الخلود، مقدماً معلومات غنية حول الفكر والفلسفة وأصول المدن والحرب. وفي وصفه للقرون الذهبية التي عاشتها بغداد بين عامي 750 م و 1258 م، يوم حطمها نهب المغول، لجأ بول للحديث عن ثقافة المدينة النخبوية، حيث الأدب والموسيقى والجنس والخمر، معتمداً بشكل كبير على كتاب الجواري للجاحظ.
احتلالات
ولأن تاريخ العراق تأثر بشكل جذري بالتطورات خارج حدوده، فقد أولت بعض فصول الكتاب اهتماما أكبر لما حدث في أماكن أخرى كبلاد فارس والأناضول، وكذلك عن دور البريطانيين والأمريكان في التاريخ المعاصر، لينتهي للحديث بإيجاز على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003، مشددًا على أن تبرير الحرب، بحجة حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثبت زيفه، وفاضحاً العديد من الفظائع التي ارتكبها الغزاة البريطانيون والأمريكان بحق الشعب العراقي، مثل استخدام ونستون تشرشل للقنابل لقمع التمرد ضد السيطرة البريطانية في عام 1920، وفضيحة سجناء ابو غريب.
بلد عريق
واستعاد الكاتب في معرض دفاعه عن قدم العراق كبلد وحضارة، المقترح الذي عرضه الرئيس جون بايدن، يوم كان سناتوراً، وبمشاركة زميله ليزلي إتش في العام 2006، وأراد به تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد كبير على أسس عرقية دينية، الأكراد والعرب السنة والشيعة، ذلك المقترح الذي حظي بدعم كبير من مجلس الشيوخ، مع ثناءِ إستثنائي للمستعمر البريطاني الذي نجح بعد الحرب العالمية الأولى في تجميع "الأمة المصطنعة" للعراق الحديث من ثلاث مقاطعات عثمانية، في مسعى محموم لإعطاء خطة التقسيم شرعية تاريخية.
وأشار إلى أن المقترح لقى رفض أغلب العراقيين، لأن الحدود الإقليمية التي اعتمدت عند استقلال العراق عن حكم الانتداب البريطاني في عام 1932، لم تكن مختلفة كثيراً عن الحدود الخارجية العثمانية القديمة للمقاطعات الثلاث في بلاد ما بين النهرين، والتي لم تكن مختلفة كثيراً عن القوى المتداخلة للإمبراطوريات الأكادية والبابلية والآشورية التي سبقتها، بمعنى أن المنطقة الجغرافية للعراق ــ وهو الاسم المستخدم منذ القرن السادس الميلادي على الأقل، حتى قبل ظهور الإسلام، لها تاريخ مشترك، يمتد لخمسة آلاف عام، وكان جزءًا مميزًا من العالم، رغم تنوعه الداخلي، طيلة آلاف من السنين.
امتداد لا قطيعة
ويضيف بول بأن البعض يدعي زوراً، بوجود قطيعة تامة بين العراق القديم وعراق الوقت الحاضر، مستشهداً بتسمية ما قبل الإسلام بالجاهلية، أي فترة من الجهل والهمجية، لم يعد الناس فيها مهتمين بالماضي العريق للمنطقة، وناكرين على العراقيين اليوم، أن يكونوا ورثة ذلك الماضي.
ويدحض بول هذا الإدعاء، حيث يرى ومن خلال الدراسة الاريكولوجية تواصل نهج بناء، يسمح بظهور الزخارف المشتركة في مدن العراق المختلفة، والتي كانت دوماً بوتقة تنصهر فيها الثقافات، ارتباطاً بموقع البلاد على الكرة الأرضية، حيث يلتقي الشرق والغرب. وعلى الرغم من حلقات الصراع التي كانت في بعض الأحيان عنيفة للغاية، فإن التعايش بين التقاليد واللغات والأديان أدى إلى تنوع هائل.
وقد لعبت هذه الصراعات العنيفة دوراً في حجب بعض أحداث التاريخ، بما فيها المعاصرة، ويستشهد بول بعدد اليهود في بغداد في أوائل القرن العشرين، والذي كان يقارب أعداد أهل السنة، متفوقاً على الأقليات المسيحية والفارسية والتركية مجتمعة.
وجه النقاد الكثير من الملاحظات لكتاب بول، ربما بسبب هذا التنوع والفترة الزمنية الشاسعة التي حاول تغطيتها، والكم الهائل من الأحداث والذي يمكن أن يملأ مكتبات بأكملها، حتى لو اقتصر على مجرد سرد سلالاته السياسية، مشيرين إلى أن العديد من مصادره قد جاءت من أوائل ومنتصف القرن العشرين، دون أن يرجع لدراسات أكثر حداثة، تجاوزت في التحليل التاريخي قضايا المكائد السياسية ودور النساء والولدان في أحداث التاريخ.