من المعروف أن الثورة الصناعية الرابعة، التي دمجت التطورات في الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي والشبكة العنكبوتية والطباعة ثلاثية الأبعاد والهندسة الوراثية ووسائل التواصل الاجتماعي، وحولتها إلى قوة جماعية، تنجز العديد من الإستراتيجيات وتقدم المزيد من الخدمات وتعزز مجتمع المعرفة، قد أحدثت تحولاً هيكلياً كبيراً في سوق العمل ونظام التعليم المستدام، وباتت تحقق باستمرار تحسيناً متواصلاً في الإنتاج وفي تمكين الأفراد من الابتكار وتطوير قدراتهم التنافسية. إلا أن لظاهرة الهيمنة التكنولوجية هذه تأثيرات جوهرية على الطبقة العاملة، حيث أنها تعيد تشكيل طبيعة العمل وظروفه، ما يطرح تحديات كبيرة ليس أمام العمال فحسب، بل ونقاباتهم، التي يجب أن يبرز دورها كقوة تنظيمية قادرة على التفاعل مع هذه التحديات، وحماية حقوق العمال.
إعادة تشكيل سوق العمل
وتبرز رغم منافع التقدم التكنولوجي، مخاطر كبيرة له على العديد من الوظائف التقليدية، حيث يتم استبدال العديد منها بآلات وبرامج قادرة على أداء المهام بشكل أسرع وأرخص. وتشير بعض التقديرات إلى إن نسبة فرص العمل التي ستختفي تصل إلى 46 في المائة من سوق العمل.
ووضع هذا التحول العمال في مواجهة مباشرة مع مخاطر فقدان وظائفهم، خصوصا في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على العمل اليدوي أو الوظائف الروتينية. إضافة إلى ذلك، باتت الوظائف الجديدة تشترط مهارات تقنية متقدمة، مما يجعل العديد من العمال غير مؤهلين للتكيف مع هذه التحولات دون إعادة تدريب وتأهيل.
دور النقابات العمالية
وفي مواجهة هذه التحديات، تلعب النقابات العمالية دورا أساسيا في التصدي لتأثيرات الهيمنة التكنولوجية على الطبقة العاملة. وتتمثل مهمتها الأساسية في التفاوض والدفاع عن حقوق العمال لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوة التي تحدثها التكنولوجيا. ومن بين الأدوار المهمة التي يمكن أن تضطلع بها النقابات ما يلي:
. فرض الاستدامة الوظيفية على أرباب العمل بما يضمن بقاء العمال في وظائفهم، حتى في ظل التحول التكنولوجي، والمطالبة ببرامج تدريبية لإعادة تأهيل العمال وتعليمهم المهارات الجديدة المطلوبة في السوق.
. المطالبة بتحقيق التوازن بين التكنولوجيا والعمالة البشرية، وذلك عبر الحد من الاعتماد الكامل على الآلات والتكنولوجيا في بعض القطاعات، وخلق فرص عمل مناسبة لعمال المهن الحرة والاعمال اليدوية وعدم استبدالهم بشكل كامل بالتكنولوجيا.
. إدارة تأثيرات الأتمة عبر مراقبة عملياتها والتأكد من أنها لا تؤدي إلى زيادة البطالة أو تقليل الأجور، والعمل على تبني سياسات تساعد على توزيع عادل للعائدات الإضافية الناتجة عن التحول التكنولوجي.
. الدعوة إلى تحسين قوانين العمل، فالهيمنة التكنولوجية تتطلب تحديث قوانين حماية العمال في القطاعات المتأثرة. ومن الطبيعي أن يكون للنقابات صوت قوي للمطالبة بتغييرات قانونية تضمن حقوق العمال، مثل تحديد ساعات عمل مناسبة في الوظائف الرقمية أو حماية العاملين عن بعد.
تأثير النقابات على الطبقة العاملة في ظل التكنولوجيا
للنقابات العمالية تأثير كبير على منتسبيها في عصر التكنولوجيا، من خلال دعمهم المستمر، وتعزيز ثقتهم في قدرتهم على مواجهة التغيرات وتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يمكن للنقابات المساعدة في تحقيق عقود عمل مرنة وعادلة للعاملين في الاقتصاد الرقمي أو ما يعرف بـ"اقتصاد الوظائف المؤقتة" الذي يُعد أحد أبرز نتائج الهيمنة التكنولوجية. إلى جانب ذلك، تسهم النقابات في تقليل فجوة المهارات بين الطبقة العاملة، من خلال توفير ورش عمل تدريبية وبرامج تعليمية تعين العمال على اكتساب المهارات التقنية اللازمة للعمل في القطاعات التكنولوجية المتقدمة.
التحديات التي تواجه النقابات العمالية
وعلى الرغم من الأدوار المهمة التي تلعبها النقابات، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة في ظل الهيمنة التكنولوجية. من أبرزها:
- صعوبة مواكبة التغيرات السريعة فالنقابات تجد نفسها أحيانا غير قادرة على التكيف مع التطورات التكنولوجية المتسارعة التي تؤثر على طبيعة العمل بشكل مفاجئ.
- تأثير السياسات النيوليبرالية، فالحكومات التي تتبع سياسات نيوليبرالية تقلل من دور النقابات وتسهل عمليات الأتمة على حساب العمال، مما يجعل مهمة النقابات أكثر تعقيدا.
وأخيرا، في ظل الهيمنة التكنولوجية، تظل النقابات العمالية صمام أمان للطبقة العاملة، حيث تعمل على حماية حقوق العمال وضمان عدالة الفرص في سوق العمل. ومع ذلك، تحتاج النقابات إلى تطوير أساليب عملها لتواكب التحديات الجديدة، من خلال تبني استراتيجيات مبتكرة تستند إلى فهم عميق للمتغيرات التكنولوجية. بذلك، يمكن للنقابات أن تبقى قوة فعّالة تدافع عن حقوق العمال وتحافظ على توازن سوق العمل في عصر التكنولوجيا المتقدمة.