اخر الاخبار

تعود بداية تدريس النقد الأدبي في كليات الآداب والتربية في العراق إلى أساتذة تحصلوا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته على شهادات عليا من جامعات غربية مثل الدكاترة علي جواد الطاهر ونازك الملائكة وعناد غزوان وداود سلوم وجلال الخياط. ولحقت بهم فئة تحصلت شهادات عليا من جامعات مصر ومنهم الناقد الاستاذ شجاع مسلم العاني الذي تحصل على الماجستير بموضوعة "المرأة في القصة العراقية" وتخرج في كلية آداب جامعة عين شمس عام 1968.

ولم يكن من بين أساتذة النقد الأدبي من ماثل الدكتور شجاع العاني اهتمامه بمسألة تحديث النقد الأدبي بوجه خاص والتأشير على جمود مناهج تدريس الأدب في أقسام اللغة العربية بوجه عام. وما أن عمل الدكتور شجاع العاني أستاذا في جامعة البصرة بدءا من العام 1976، حتى وجد الفرصة سانحة للبدء بمشروعه التحديثي، وساعده في ذلك النظام المعمول به وقتذاك في كلية الآداب وهو نظام المقررات، فاستثمره باتجاه تحقيق نقلة حداثوية في تدريس الأدب على مدى عقدين وأكثر، مؤكدا ما لديه من وازع حداثي نحو التغيير. فأضاف مقررات دراسية جديدة، وابتكر طرائق تدريس جديدة تستبدل تلك التي كانت سائدة.

ولم يكن أمر المضي في هذا المشروع يسيرا، لأن فلسفة الدولة العراقية عامة كانت تقوم على اعتماد ما هو كلاسيكي محافظ، بيد أن ما امتلكه الدكتور شجاع العاني من ثقافة كبيرة ودراية تخصصية بطبيعة دوره الاكاديمي فضلا عن حسه النقدي المرهف وسعة قراءاته في الآداب العربية والأجنبية كل ذلك مكَّنه من اتمام مشروعه التحديثي وبشكل التفافي بمعنى أن عمله كان في الظاهر يبدو تجريبا لأساليب جديدة وطرائق مستحدثة في التدريس في حين أنه كان في الباطن أقرب الى الانقلاب الثقافي على السائد عبر تنوير وعي الطالب الجامعي بالمفاهيم والفلسفات الحديثة مع الخروج على ما وضعته لجان المناهج في وزارة التعليم العالي.

وبذلك مارس الدكتور العاني دور الناقد الأكاديمي الذي يجمع خبرته التربوية بإمكانياته النقدية فادخل ماديتي القصة والرواية وجعلهما من الموضوعات الرئيسة لطلبة قسم اللغة العربية انطلاقا من شعوره بما يتسم به هذان الجنسان الأدبيان من بعد حضاري معاصر. في وقت كان الغالب على التدريس هو الشعر وتتبع سير الشعراء لكن إصرار الأستاذ العاني على إضافة هاتين المادتين الى مناهج الدراسة هو الذي كسر هذا النسق الكلاسيكي. ومثل ذلك حصل مع تدريسه مادة فن المسرحية. واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن بلغ عدد المواد التي ادخلها الأستاذ العاني الى منهاج مقررات قسم اللغة العربية خمس عشرة مادة منها النقد التطبيقي والمذاهب الأدبية( كلاسيكية، رومانسية، واقعية، رمزية) ولأن هذه المواد جديدة كان على الدكتور شجاع العاني أن يضع مفرداتها ويرسم خطة خاصة لتدريسها، وهو أمر احتاج منه بحثا متواصلا وتنقيبا في المصادر والمراجع العربية والاجنبية.

ثم أتت بعد هذه الخطوة في تمرير الحداثة خطوة مهمة وتعد مبكرة في حينها وتتمثل في تداخل الاختصاصات بين الاقسام المتجاورة ومن ذلك مثلا الجمع بين بعض مقررات قسم اللغة العربية وقسم اللغة الانجليزية من خلال تدريس مواد تجمع بين الأدبين العربي والانجليزي كما حصل في تدريسه مادة( الرومانسية) فكان يختار النصوص الشعرية لشعراء العربية والانجليزية وكذلك تدريسه مادة( لغة الإعلام: صحافة، إذاعة، تلفزيون، سينما) اذ كان ينقد النصوص الأدبية جنبا إلى جنب نقد الافلام السينمائية من ناحية المشاهد والسيناريوهات وغير ذلك. ولقد ساهم هذا التداخل الاختصاصي في اغناء الطلبة بالمعارف وتوسيع مداركهم. ولم يجدوا في هذا النوع من التعليم صعوبات بل بالعكس كانوا يقبلون على مثل هذه المواد ويتلقونها بشغف بسبب ما وجدوه فيها من اختلاف كبير عن سائر الدروس الاخرى.

وهذا ما اكسب الأستاذ العاني خبرات معرفية كثيرة سواء في مجال تخصصه الأساس وهو النقد الأدبي أو في التخصصات المجاورة مثل الفنون التشكيلية والعلوم الانسانية كالفلسفة وعلم النفس والتاريخ وغيرها. وكان حريصا في تدريس المقررات الجديدة على البعد التطبيقي المتمثل بالشواهد التمثيلية التي يأتي بها من بطون كتب الادب والفلسفة ولاسيما فلسفات هيجل وماركس ونيتشه وكاسيرر وارنست فيشر وغارودي ومما كان قد تحصل عليه أيضا في أبحاثه حول اللغة والثورة والدولة والأسطورة وغيرها كثير . ولقد غرس منهجه هذا في نفوس الطلبة الوازع نحو توسيع نطاق التحليل الادبي من النصوص الى الافلام السينمائية وأغاني فيروز التي صارت معلما من معالم محاضرات الدكتور العاني في النقد الأدبي. وبهذا وفَّى بحاجات الطلبة المعرفية، وحقق قدرا كبيرا من تنمية الذائقة الادبية في نفوس طلبة المرحلة الاولية وطلبة الدراسات العليا معا.

ولم يثر هذا السعي في تحديث النقد وتنوير الطلبة حفيظة أصحاب القرار في جامعة البصرة بادئ الأمر لكنه في ما بعد أخذ يجلب الانتباه ويتسبب في متاعب ومضايقات، لا بالنسبة إلى الدكتور شجاع العاني وحده، بل رئاسة القسم أيضا ولكن بعد أن كان المشروع قد قطع اشواطا مهمة وحقق من خلالها كثيرا من أغراضه وآتى أكله بما صنعه من جيل طلابي مثقف ثقافة أدبية خاصة.

انتقد الدكتور شجاع العاني في لقاء صحفي أُجري معه حين كان استاذا للأدب العربي في جامعة البصرة عام 1979 لجان إعداد المناهج الدراسية في وزارة التعليم العالي لما فيها من عناصر تتسم بالمحافظة ولا تملك إرادة التغيير. وشدد على( ضرورة الانفتاح على التيارات والمناهج الحديثة في النقد الادبي، ولا بد من إزالة كل العقبات التي تحول دون وقوفنا على كل ما هو جديد في علم النقد الأدبي الحديث ولكي تؤدي جامعاتنا دورها في هذا المضمار وفي مضامير دراسة اللغة والأدب بمناهج حديثة لا بد من أن تنال يد التغيير البنى والأشكال والمناهج القائمة في هذه الجامعات. ولا بد أن تسير هذه العملية جنبا إلى جنب مع الجهود الرامية إلى النهوض بدراساتنا العليا في داخل القطر وإلا سقطت هذه الدراسات في الجمود والشيخوخة وفي الموت) (كتابه : تمرينات نقدية، ص170-171)

لقد وظف العاني في سبيل تحديث طرائق تدريس النقد الادبي، كل ما لديه من قدرات نقدية وخبرات معرفية، فأفاد الطلبة إفادة كبيرة بعد أن وضعهم على طريق الحداثة بشكلها الفني والواقعي. ومن انجازاته الأخرى التي بها عزز الميدان الثقافي في جامعة البصرة انشاؤه( المشغل الطلابي) ثم تأسيسه( ملتقى السياب الثقافي) في سبعينيات القرن الماضي. وانتقلت خبراته الى الذين عملوا معه من الاساتذة والطلبة وعلى الصعيدين النقدي المتمثل بالإعداد النظري والصعيد الميداني المتمثل بالتنظيم الاداري اللوجستي للفعاليات الثقافية. وحين غادر جامعة البصرة عهد الى زملائه وطلبته مواصلة العمل الثقافي وبالفعل واصلوا وما يزالون يعملون على ذات السياق الذي وطده العاني. واليوم يعد ملتقى السياب معلما ومنبرا تفخر به جامعة البصرة لعراقته ولدوره الثقافي المشهود.

وبسبب ما رسخه الدكتور شجاع العاني من سياقات وسنن ثقافية، تحفَّز كثير من طلبته على مواصلة الدراسة العليا والتخصص في النقد الادبي وبخاصة السرد الروائي والقصصي. وصار بعض منهم اليوم أساتذة معروفين في كليات الآداب والتربية يدرسون النقد الادبي وبذات الروح الحداثوية التي تعلموها من أستاذهم سائرين على ما سار عليه من نزوع نحو الجديد وبحث عما هو مختلف في عالم النقد الادبي.

ولان الدكتور شجاع العاني أكاديمي له أساليبه وطرائقه التي تختلف عما اعتاد عليه التدريسيون في قسمه بجامعة البصرة، تعرض إلى بعض المضايقات كما أن نزعته التحديثية أثارت ريبة، جعلت محاضراته مرصودة من لدن الوشاة. وهذا ما يؤكده الدكتور العاني في مذكراته ففي تدريسه المذهب الواقعي كان يتطرق الى الواقعية الاشتراكية والفلسفة الماركسية وما فيهما من مضامين ايديولوجية وسياسية وهذا ما كان يثير بين الطلبة نقاشات وجدلا فكريا.

وبسبب ما للعاني من صيت علمي ومكانة نقدية وأكاديمية، واجه حين قدم للتدريس في جامعة بغداد مواقف متشجنة من لدن بعض الأساتذة من ذوي الانتماءات السياسية فناصبوه العداء. وعلى الرغم من ذلك، فإن الدكتور العاني كان يتلافى التصعيد بما يملكه من حذاقة نقدية تتسم بالحياد والتعقل والموضوعية.

وتشهد كاتبة هذه السطور وهي واحدة من الذين تعلموا بين يدي الدكتور العاني أن محاضرات أستاذها كانت تتحول إلى أسلوب حياة. ولطالما كان الطلبة يغتنمون الفرص المتاحة للحديث معه والاستزادة من علمه ومعارفه عبر نقاشات تتعدى أسوار الجامعة إلى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وعادة ما كانوا يلمسون عنده جرأة في نقد الواقع ومظاهره السلبية أبان ذاك العهد البائد.

وتذكر كاتبة السطور كيف أن كثيرا من اساتذة الدراسات العليا ما كانوا يستغنون عن الاوراق في تقديم الدروس وبعض منهم كانت طريقته املاء الاوراق على الطلبة كلمة كلمة. ولقد اختلف عنهم الدكتور العاني فكان يلقي محاضراته شفاها على مسامع طلبته وكان حريصا دوما على ان تتضمن وسائل ومسائل وشواهد تغني طلبة الدراسات العليا وتضعهم على طريق الجدة في البحث والدراسة كما تعزز في دواخلهم النوازع العلمية، وتدفعهم نحو الغور في عوالم الأدب والنقد.

وكثيرا ما كان الدكتور العاني يأخذ بيد الطلبة ويمدهم بما يعزز فيهم دوافع الكتابة النقدية ويحضهم دائما على عدم التقليد والاتباع. وفي تسعينيات القرن الماضي وبسبب الحصار غادر كثير من الاساتذة الى خارج الوطن، لكن الدكتور العاني بقي يواصل رسالته التعليمية ودوره النقدي. وما يزال الدكتور العاني أمينا على تخصصه في النقد الادبي وعلى ذات الشاكلة في الاختلاف المعرفي ومن نواح عدة منها:

- إصراره على محاربة المسائل والقضايا الكلاسيكية في تدريس الادب والنقد ملاحقا اخر مستجدات النقد الغربي بدءا من البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية مرورا بمسائل التناص والانفتاح والتعدد في الاصوات السردية. واستلهم أصول الفلسفة الماركسية في تحليل انماط الانتاج والعلاقات الاجتماعية.

- أسبقيته في تدريس السرد وقضايا السرديات وتوظيف المناهج النقدية. وهو الذي أخذ على ملتقى القصة الاول الذي عقد عام 1978 مآخذ كثيرة منها مأخذ غياب المنهج ومما قاله:( فبسبب من تخلفنا الفكري والثقافي ومن كسلنا العقلي ظل نقدنا يدور في الاطر الذوقية والانطباعية والذاتية بعيدا عن المناهج الحديثة التي حققها التقدم العلمي في الغرب) (كتابه: تمرينات نقدية، ص153.)

- توجيه الطلبة نحو مسائل ومفاهيم غير مسبوقة ومناهج جديدة وطرائق تعليمية لا على مستوى المحاضرات، بل أيضا على مستوى الاختبارات الفصلية والسنوية. ودعا عام 2000 إلى التعدد في المناهج وعدها ظاهرة صحية سليمة كظاهرة التعايش بين الثقافات بعيدا عن الجمود وضيق الافق والتعصب. وهو كثير التشخيص لسلبيات الوسط الثقافي والتعليمي في العراق فانتقد المؤسسة التعليمية التي تعتمد مناهج قديمة وانتقد الأساتذة الذين ما زالوا يعيشون عصر الشفاهية يستعملون طريقة التلقين ويطلبون من التلاميذ حفظ النصوص حفظا ببغاويا كما انتقد الثرثارين من النقاد وأدعياء النقد الذين هم مهرجون في سيرك، يجولون على صدور الصحف والمجلات الأدبية والثقافية.

- تأكيده الدائم على الصلة الصميمة بين التراث الادبي للامة وحاضرها. ومن آرائه أن التفاعل بين الأمم أمر طبيعي. ومن ثم ليس لأمة فضل على أخرى، ذلك( أن ما تستعيره أمة من أمة هو ما توشك ان تخترعه بنفسها أي أن الأمة تصل إلى مرحلة تاريخية معينة يصبح فيها اختراع وإبداع حاجة ما ضروريا وتعمد إلى استعارة هذه الحاجة من أمة سبقتها في إبداعها إن وجدت لدى امة ما) وأن النقد الادبي نشأ في أحضان المعتزلة وافاد من التيارات الفكرية العقلانية بمساعدة مؤثرات حضارية اجنبية منها المؤثرات الاغريقية وخاصة كتابا ارسطو فن الشعر وفن الخطابة مؤكدا أن العرب عدوا النقد الادبي علما منذ بدايات القرن الرابع الهجري.

إن المشروع التحديثي الذي قاده الدكتور العاني، وضع مادة النقد الادبي على طريق جديد، فلم يعد النقد مجرد مادة علمية ودرس نظري بحت، بل غدا جزءا من حياة الطالب العملية، لما له من تماس مباشر بحياته الواقعية ولأن نقد الأدب وفهمه انما يعني نقد الحياة والوعي بمسائلها. ولقد كانت النتائج في هذا المضمار مثمرة وكبيرة تعكس مقدار المسؤولية الملقاة على عاتق الناقد الاكاديمي في توجيه الطلاب الجامعيين وتوعيتهم وتنويرهم.