المقدمة
إن الحزب الشيوعي العراقي هو أحد أبرز وأهم الأحزاب السياسية اليسارية العريقة على الساحة السياسية العراقية وعلى طول مسيرته، تناول وعرض الكثير من القضايا الفكرية والمصيرية من خلال صحافته (القاعدة، كفاح الشعب، اتحاد الشعب، طريق الشعب، الفكر الجديد وغيرها من الإصدارات) والتي اهتمت بتوعية الشعب العراقي لمناهضة الاستعمار والاقطاع والبرجوازية وظروف الحياة الاجتماعية ومظاهر الطائفية والعنصرية. اٍضافة إلى مساهمته في نشر وتكريس الوعي الوطني والطبقي والتثقيف بأهم القضايا والمسائل التي واجهتها الحركة الوطنية العراقية، كالتخلف الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي والبطالة والفقر والعوز. ركزت نشرياته على أهداف المرحلة الوطنية التحررية في الاستقلال والسيادة الوطنية وقيام نظام حكم وطني ديمقراطي، والنضال من أجل الوحدة الوطنية بين القوميات المتآخية، والعمل من أجل علاقات متبادلة مع الشعوب العربية، والنضال الحازم ضد الصهيونية كحركة عنصرية، وايجاد سبل التعاون مع الانظمة الديمقراطية.
ومنذ السنوات الأولى لنشوء الحزب، انضم إلى صفوفه الكثير من العمال والفلاحين والكادحين من الكسبة والطلبة وكثير من الفئات الاجتماعية الاخرى. ولم يتأخر المثقفون عن دخول الحزب، الذي مثّل جهة معبرةً عنهم وداعمةً للجمال والفن والثقافة بكل أشكالها. لهذا حمل المثقفون وبكل اختصاصاتهم واهتماماتهم راية الحزب، التي جسدت الروح الثورية والعدالة الاجتماعية والخير والسلام، إضافة إلى مكانته المتميزة في الدفاع عن حرية الفكر والتعبير والابداع.
بفضل الشيوعيين تحولت السجون والمعتقلات في نقرة السلمان وغيرها إلى مدارس وجامعات، درس فيها السجناء الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والحركة الثورية، وتعلموا سبل نشر الوعي والثقافة بين السجناء. وكان الأدب حاضراً إلى جانب السياسة، فبرز مناضلون مبدعون منهم، الشاعر الكبير مظفر النواب، الناقد فاضل ثامر، النقابي صادق جعفر الفلاحي، الكاتب محمد ملا عبد الكريم، المهندس عبد الرزاق زبير وغيرهم.
هكذا، اقترن الإبداع والثقافة بالحزب الشيوعي العراقي وباليسار بصورة عامة، فكان كبار المثقفين قريبين إلى اليسار والقوى والوطنية، منهم الشعراء محمد مهدي الجواهري، عبد الوهاب البياتي، بدر شاكر السياب، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، محمد صالح بحر العلوم، الفريد سمعان، يوسف الصائغ، صادق الصائغ، لميعة عباس عمارة، بلند الحيدري، شمران الياسري (ابو كاطع)، هاشم شفيق، عريان السيد خلف، ناظم السماوي، كاظم اسماعيل الكاطع، عزيز السماوي والمئات غيرهم. كما كان هناك الروائيون غائب طعمة فرمان، محمد خضير، عبد الخالق الركابي، إبراهيم أحمد وغيرهم. وكان هناك الفنانون المبدعون يوسف العاني، خليل شوقي، سامي عبد الحميد، عبد الجبار عباس، فاروق فياض، زينب وناهدة الرماح وحميد البصري، شوقية العطار، كوكب حمزة، طالب غالي، وفيصل لعيبي وعفيفة لعيبي والعشرات من الأدباء والفنانين والشعراء بمختلف الاختصاصات.
ربط الحزب الثقافة بالموقف الوطني، ربطاً وثيقاً، استرشاداً بمقولة مؤسسه الخالد فهد (لقد كنت وطنياً قبل أن أكون شيوعياً وحين صرت شيوعياً اصبحت أشعر بمسؤولية أكبر تجاه وطني). كما وضع الرفيق فهد احترام الشيوعيين والتقدميين شرطاً من اشتراطات الشيوعي الجيد فحملت بطاقة العضوية توصية تقول: ايها الرفيق: كن تقدميا في نظرتك إلى المجتمع وفي نظرتك إلى المرأة، وشعبيا في نظرتك للعلم والفن والأدب، واحترم القادة الاجتماعيين والعلماء والفنانين والأدباء الذين يخدمون الشعب وتحرره الوطني وسعادته..
وأصبحت المنطلقات النظرية الأساسية للفكر الماركسي في ميدان الأدب والفن ملكا لا للشيوعيين فقط، بل وسلاحا في يد جميع المثقفين التقدميين. وكانت برامج الحزب من خلال مؤتمراته، تنشد إلى اِقامة مشروع ثقافي وطني انساني النزعة وديمقراطي المحتوى، يكون حاضنة لكل التيارات الداعية إلى تكوين هوية وطنية منفتحة متجددة تحترم التعددية الثقافية والفكرية والتنوع القومي.
وفي أعوام الجبهة الوطنية عام 1973-1979 لعبت صحيفة الحزب المركزية (طريق الشعب) دوراً ثقافياً وتعبوياً وتحريضاً هاماً في معارك الكفاح الوطني والطبقي، كما لعبت مجلة (الثقافة الجديدة) دوراً مهماً في نشر خطاب ثقافي يتناسب مع وعي الطبقة العاملة والكادحين وسائر ابناء الشعب.
وعلى اٍمتداد مسيرته الطويلة الغنية بالعطاءات والنضالات والتضحيات الجسام، واجه الحزب الشيوعي العراقي الكثير من المصاعب والمعوقات، وتعرض اعضاؤه للملاحقات والمضايقات السلطوية والبوليسية والاعتقالات التعسفية القمعية والمواجهات التصفوية، وذاقوا جميع ألوان القهر والكبت والتعذيب والترهيب والتصفية الجسدية وحبال المشانق. لكنه اجتاز كل العراقيل، وصمد أمام الطاغوت والقمع الارهابي، وتمكن من استعادة وتعزيز نشاطه وقيادته للحركة الوطنية في العراق، مواصلاً النضال البطولي والكفاح الوطني المثابر والدؤوب دون كلل، وعمل على زج كل الطاقات الشعبية في زخم العملية الثورية، ونجح في خلق أسس وتقاليد لها، وفي تطوير مسيرتها الكفاحية المظفرة.
وبهذا الصدد، يشير الاستاذ جمال العتابي إلى أنه حينما بدأت الأفكار اليسارية والتقدمية تنتشر في الوسط الثقافي، أصبحت الحلقة الأهم لتمثيل الحضور الاجتماعي والانتماء لهذه الحركة النضالية الوليدة.
ان الإبداع في العراق هو صنو الحركة التقدمية، لإرتباطه بها وبالحزب الشيوعي العراقي، حيث لا يمكن الحديث عن الثقافة العراقية من دون الحديث عن دور الحزب الشيوعي فيها، ولا يمكن أن نذكر أسماء مثقفين ومبدعين مثلوا النواة الأولى لانتشار هذه الثقافة دون أن نشير إلى علاقتهم بالحزب الشيوعي وتأثيره في عطائهم الابداعي والثقافي. وهذا يشمل الشعر والقصة والرواية والنقد والتشكيل وغيرها من ميادين الإبداع.
كما يشير الاستاذ الناقد المعروف فاضل ثامر إلى أن العلاقة بين الثقافة والحزب الشيوعي هي علاقة عضوية، ولا يمكن الحديث عن الثقافة العراقية ونموها بمعزل عن تأثير الحزب الشيوعي العراقي. لقد اقترن نضال المبدعين الشيوعيين بالوعي والثقافة واستخدموها أداة للتغيير، فرفضوا القفز للسلطة بالبيان رقم واحد الانقلابي كي يحققوا التغيير، ولم يعتمدوا على طائفة أو هوية فرعية معينة، وإنما على وعي الجماهير، لأنه متى ما استطاع أن يخلق حالة اختمار داخل الوعي الاجتماعي، استطاع تحقيق التغيير المنشود في المجتمع، ولهذا وضع الحزب دائما في برامجه قضية الثقافة وقضية الوعي.
أولى الحزب الشيوعي الإهتمام بالمنظمات والاتحادات المهنية والنقابية، وعندما تأسس اتحاد الادباء في العراق عام 1959 اي بعد ثورة 14 تموز المجيدة، دعم هذا الاتحاد الذي انتخب لرئاسته شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وكذلك نقابة الفنانين ونقابة الصحفيين.
ليس هذا فقط كونه منتج القيم الابداعية الادبية والفنية، بل دافع المثقف الشيوعي عن القيم الانسانية والاخلاقية، وكون له موقفا اتجاه الدكتاتورية والاستبداد والاساليب التي تحط من كرامة الانسان عكس هؤلاء الذين يدافعون عن الاستبداد. وهنا يشير النصير الكاتب رضا الظاهر إلى أن (دور معرفة السلطة يصبح البرهنة على أن شرعيتها الوحيدة هي الدفاع عن شرعية الاستبداد فيما يصبح الاستبداد قائما في عملية المعرفة، بمعنى آخر أن الاستبداد لايسمح بانتاج معرفة حقيقية ولا بممارسة ديمقراطية داخل عملية المعرفة، ويحول المثقف إلى مبرر لاندماجه بالاستبداد وداعية وشارح لمعرفة السلطة المطلقة التي تفرض علاقات الامتثال وترفض النقد والاجتهاد والعقلانية والحوار. أما بشأن الموقف المطلوب موقف المثقف حيال الأزمة العراقية المستعصية، فان السلطة الدكتاتورية الحاكمة قدمت نموذجا لسلطة الاستبداد، وهو نموذج استثنائي في نوعيته وفي قسوة مثاله، حتى حالة الثقافة في العراق تكاد تكون حالة استثنائية بسبب استثنائية القمع والاساليب الفاشية، ولولا الجذور العميقة للثقافة العراقية لما استطاعت أن تقاوم هذه الموجات من العنف والتدمير).
ولا ريب أن "ثقافة الأنصار" تشكل صفحة مضيئة من صفحات الثقافة العراقية التقدمية.
ومن هذا المنطلق واصل الحزب أثناء خوضه الكفاح المسلح من ذرى كردستان، دعم الثقافة والمبدعين من الأنصار وتهيئة الظروف الملائمة لنشاطهم وتوفير مستلزمات تنفيذهم للفعاليات المختلفة في مواقع الانصار وثم الانطلاق إلى الناس في القرى والمدن القريبة من خلال الأغنية والمسرح والندوة والشعر.. الخ.
وعكست ما سمي لاحقاً بثقافة الانصار الجانب الفكري والثقافي للحزب الشيوعي العراقي، وعملت اللجان الثقافية في مقرات الانصار قدر المستطاع على كتابة النشرات الحائطية التي تعلق على جدران المقرات او تنظم في دفاتر توزع على المفارز الجوالة في المنطقة، وجميعها بأقلام الانصار وعصارة افكارهم وما أفرزته التجربة. وقد أصبح الكثير منهم مهتماً بالكتابة والمتابعة اضافة إلى القراءة اليومية، خاصة في المقرات أو في المفارز المتنقلة بين القرى وأثناء الاستراحة في الوديان.
وأكسب ذلك الانصار وعيا تراكمياً أدى بالتالي إلى نتاجات مختلفة خاصة للذين يمتلكون أدوات العمل الصحفي أو القصصي أو المسرحي أو غير ذلك. وهذا التجسيد والإبداع في مجال الادب والثقافة أعطى صورا متنوعة عن الحياة التي عاشوها في تلك المناطق النائية ذات الطبيعة الصعبة، وكانت ذات مضامين جيدة من خلال هذا التطور. إن تواجد عدد غير قليل من المختصين في عدة مجالات قد خلق أجواء ايجابية وغنية في حياة الانصار. وشكلوا فصيلا للفنانين وهم من مختلف الاختصاصات ومن ثم تأسيس رابطة المثقفين والفنانين والصحفيين الديمقراطيين في كردستان.
يشير النصير الكاتب عبد اللطيف السعدي بهذا الخصوص إلى أن (الانصار بدأوا يمارسون طقوسا خاصة، تميزت بأشكال وأساليب الانعكاس وبشكل واع وحيوي، وبتفاعل مع كل مفردات الحياة الكردستانية وبالمزج بين ذلك وجماليات الطبيعة القاسية والخلابة في آن معا. فكان لكل نصير، خاصة من الذين يتملكهم هاجس التسجيل والتعبير بأشكال الكتابة والابداع، دفتر صغير يحمله معه وكأنه مكون هام إلى جانب أدواته الضرورية، هذا إلى جانب قطع من الخبز والمؤونة الشحيحة داخل (عليجته) اي حقيبة الظهر. وعند كل فسحة للاستراحة يتناول قلمه لتسجيل اللحظات المؤثرة في مسيرة يومه).
وقد كان لتقديم الأعمال من خلال الكلمة والبوستر والاغنية والمسرحية، الأثر الطيب في نفوس الجماهير التي تعيش قريبة من مواقع الأنصار أو التي تصل لها مفارزهم.
وبعد الخروج من كردستان أصبحت ظروف الحياة أفضل، حيث الاطلاع على آخر منجزات العلم والتكنلوجيا واصبح الأدب والاعلام في متناول الجميع بصورة أسهل. وقد ثابر الأنصار من المبدعين في جميع المجالات على تطوير قدراتهم من خلال نتاجاتهم الأدبية والفنية والعلمية والتي صار لها صدى واسع بين المعنيين من النقاد والمتابعين.
فقد أصدر الكتاب الأنصار عشرات الكتب والمؤلفات في الرواية والسياسة والمذكرات، وأقاموا عشرات المعارض في الفن التشكيلي والتصوير الفوتغرافي، وكتبوا القصائد والقصص والمقالات الصحفية والريبورتاجات وأنتجوا عشرات الأغاني والألحان والمسرحيات والأفلام وغيرها.
لنا الحق في الفخر بأنصارنا الذين واكبوا العمل الثقافي وتطور فيهم مفهوم الحياة وعيا واداركا وأصبحوا أسماء مهمة في مجالات الابداع. ومن هذا المنطلق نقول نحن جئنا حقا من تحت معطف الحزب.
في هذا الكتاب سعيت إلى التواصل مع عدد كبير من المثقفين وقد أرسل لي بعضهم معلومات عن حياتهم وكتاباتهم ونشاطهم في الحركة الأنصارية في كردستان. وللأسف لم أستطع التواصل مع آخرين بسبب عدم معرفتي بمكان تواجدهم وأرقام هواتفهم...الخ ، ولهذا أحاول أن يكون هذا الجهد جزءاً أولا. أما الذين لم اتمكن من ضمهم في هذا الكتاب فسيكونون، حتما، في الجزء الثاني عسى أن أوفق في انجاز هذه الكتاب، ليكون جزءا من تاريخ الحركة الانصارية والحزب الشيوعي العراقي في الفترة المشار لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أصل المقولة هو (كلنا خرجنا من معطف غوغول وهي من أشهر المقولات في تاريخ الادب الروسي وتنسب إلى الكاتب الكبير فيودور دوستويفسكي(1821-1881) اي ان البذرة الأولى في كتاباته تعود إلى الكاتب الروسي نيكولاي غوغول(1809-1852) في روايته (المعطف) أي (ان كل هذه الاجيال خرجت من معطف غوغول وتعلمت منه الكثير. واستعملتُ صيغة جئنا لكي لا تفسر كلمة خرجنا بشكل آخر).