اخر الاخبار

كل أطراف الصراع في السودان، العسكرية منها والمدنية، تدعي لنفسها شرعية في حكم البلاد تتأسس على سردية لا يتفق معها الآخرون حولها. فالجيش السوداني وهو المؤسسة الوطنية المنوط بها حماية البلاد، رغم ان تكوينه يرجع إلى عهد الاستعمار، لكن وضعيته الحالية تم إقرارها من قبل أول برلمان. فتمت سودنته بالإحلال والإبدال. ولو أنه اكتفى بذلك الحق لما نازعه فيه أحد، ولكنه راح يطلب حقا ليس له في حكم البلاد مع تمثيل رمزي لبعض المدنيين الطامعين في الوصول إلى الحكم، في حين انهم لا يمتلكون القدرة على منافسة الآخرين. لذلك توالت الثورات الشعبية ضد حكم الجيش طوال تاريخ السودان الحديث.

أما قوات الدعم السريع، ورغم انها مليشيا استنفرتها حكومة عمر البشير للقيام بمهمة معينة تتمثل في حسم حركات التمرد في إقليم دارفور، لما تمتلكه المليشيا من المرونة والسرعة في الحركة، تلك الميزات التي تفتقر لها الجيوش النظامية التي تقاتل بنظام الصندوق القتالي. ولكن تلك المهمة انتهت بسقوط النظام السابق والتحاق حركات دارفور المسلحة، التي كانت تقاتل الحكومة، بقوى الثورة ووقعت معها حكومة الفترة الانتقالية اتفاق جوبا. إلا أن الدعم السريع تحول من قوى مستنفرة وكان يجب أن ينتهي وجودها العسكري بانتهاء مهمتها، تحولت إلى شريك في الحكم بسبب الالتباس الذي صاحب اصطفاف قوى الثورة. فأشهر الدعم السريع في وجه الجميع أحقيته في الحكم وفي الوجود العسكري استنادا إلى قانون أقره برلمان النظام السابق، رغم انه فاقد للشرعية ويستند في وجوده إلى انتخابات عام ٢٠١٥ المزورة والتي قاطعتها كل الأحزاب الوازنة في الساحة السياسية.

اما القوى السياسية المدنية التي تقاسمتها المنافي الإجبارية والاختيارية وراحت تندب حظها وتبكي حكما لم تدافع عنه كما ينبغي فلا زالت تردد انها تستند إلى شرعية ثورة ديسمبر التي تنكرت لها باستمرارها في تطبيق نفس السياسات المالية والاقتصادية التي قامت ضدها الثورة. وكان من الطبيعي أن تخرج ضدها المظاهرات الشعبية، مما أسس لعزلتها الجماهيرية وسهل مهمة ضباط الجيش في الاطاحة بها في انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١. وبذلك حسمت قوى الثورة المضادة الصراع لصالحها. فتحول الصراع الثانوي في داخلها إلى صراع أساسي قاد ضمن ملابسات أخرى إلى اشتعال حرب ١٥ أبريل (نيسان) ٢٠٢٣.

لكن الغريب في الأمر أن يدعي فلول نظام عمر البشير أحقيتهم في حكم البلاد، وهم الذين خرجت ضدهم جموع الشعب من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن الشرق الي الغرب.

مأزق الشرعية هذا واجه النخبة المدنية السياسية والعسكرية خلال فترات الانتقال المختلفة وكانت تجد له الحلول من خلال إقرار شرعية توافقية تقود إلى انتخابات ووضع دستوري ينقلب عليه الجيش فيما بعد. وهكذا دواليك إلى ان اتسع الفتق على الرتق. فالآن لا يمكن الحديث عن توافق سياسي لأنه يعني الموافقة على وجود جيشين في دولة واحدة وهذا مستحيل.

والحل الوحيد والذي ترفضه القوى السياسية المدنية وقوات الدعم السريع بطبيعة الحال هو أن يلتف الجميع حول الجيش الوطني الذي يعتبر حتى بعد التخريب الذي طاله على يد الإسلاميين الأكثر تمثيلا لواقع السودان المتعدد مقارنة مع المليشيات الأخرى، خاصة قوات الدعم السريع والتي تستند في تكوينها على إثنيات بعينها.  ويجب أن تستهدف مساندة الشعب للجيش تحقيق هدفين وهما نزع سلاح المليشيات وتسريحها واعادة دمجها في المجتمع وليس الجيش. وذلك عبر التفاوض أولا، أو اجبارها على ذلك بقوة السلاح. ومخاطبة المجتمع الدولي ليقف مع أهل السودان لاستعادة دولتهم من براثن العصابات المسلحة وإجبار الدول التي تساندها على ان تكف أذاها عن شعب السودان. 

ولتحقيق ذلك على الجيش ان يعيد النظر في موقفه الموروث عن حقه المزعوم في حكم البلاد. والموافقة من حيث المبدأ على أن دولة السودان يملكها شعب السودان ويديرها المدنيون بتفويض من الشعب عبر الشرعية الثورية، كما حدث في ثورة ديسمبر، او عبر شرعية انتخابية. وواجب الجيش ان يحرس خيار الشعب. كما يجب على الجيش أيضا ان يفرز صفوفه من الإخوان المسلمين وفصل الضباط الإسلاميين من الخدمة والذين ينضوي بعضهم تحت لواء كتيبة البراء بن مالك.  لأن وجود ضباط ومن داخل الجيش يعلنون انتماءهم لتنظيم سياسي بعينه داخل مؤسسة قومية يفترض فيها ان تكون ملك للشعب ومفتوحة أمام فئاته فهذا ما من شانه ان يبرر منازعة الجيش حول شرعيته واحقيته في حماية أرض السودان وشعبه. ويعطي الآخرين مبرر الخروج عليه وتكوين جيوش خاصة بهم.

كما أن وجود الإسلاميين المعلن داخل الجيش يمنع اصطفاف أهل السودان خلف الجيش. وهم الذين خرجوا ضد هذا التنظيم في ثورة يدعي حتى العسكريون انتماءهم لها.

اما الدعم السريع فليس له حق في الحكم او حتى ان يكون ضمن المكونات العسكرية والأمنية في البلاد. لأن الشرعية التي يستند إليها منحت له بقانون أجازه برلمان اتت به انتخابات مزورة وتم تكنيسه بفعل الثورة كأثر من آثار النظام المدحور. وإن كانت هنالك حقوق لقيادات الدعم السريع فهي لن تتجاوز حقهم في محاكمة عادلة على الجرائم التي ارتكبوها منذ تأسيس تلك القوات في عام ٢٠٠٣.

اما القوى السياسية المدنية، خاصة التي تنتظم الآن في تحالف (تقدم)، فعليها ان تعلن بأنها أخطأت في حق الشعب وتنكرت لشعارات ثورته المجيدة وانتهجت خطا سياسيا لا يستجيب للمطويات التي ثارت من أجلها الجماهير والتي كانت تحركها الآثار المترتبة على سياسات رفع الدعم عن القمح والوقود وتعويم سعر العملة الوطنية، تلك الحزمة التي نفذها عبد الله حمدوك عند توليه الحكم وخرجت ضدها الجماهير في كل مكان. حينها يمكن لتلك القوى ان تتحدث عن شرعية تستند على الحق الأصيل للشعب السوداني في امتلاك ثورته وارضه وموارده وتوظيفها لتطوير حياته. ويعرف فيها كل طرف حدوده التي يجب عليه الالتزام بها. ثم نطلب من المجتمع الدولي واصدقاء السودان في كل مكان ان يقفوا إلى جانبنا ويدعموا خيارنا في أعادة تأسيس دولتنا من تحت رماد الحريق الذي طال البلاد من أقصاها إلى أقصاها.