ضمن سلسلة اللقاءات التي دأبت جريدة "طريق الشعب" على إجرائها مع عدد من الشخصيات الوطنية، الدينية، الاجتماعية، والثقافية في العراق، حاور الرفيق علي شغاتي عضو هيئة تحرير الجريدة، الشيخ طالب السنجري رئيس مركز إرشاد للتعايش والحوار في العراق.
واُستهل اللقاء متسائلا عن سيرة السنجري الشخصية، منذ نشأته، وتاريخه النضالي ضد النظام البعثي الدكتاتوري، بالإضافة إلى المرحلة التي أعقبت غزو العراق، وصولاً إلى التطورات السياسية الراهنة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
وفي أدناه النص الكامل للحوار:
الشيخ طالب السنجري: أنا أنحدر من عائلة فقيرة من مدينة الشطرة، لكنها عائلة مناضلة ومعتزة بنفسها. عائلتي كانت تكسب رزقها بعرق جبينها، وأنا فخور بهذا الانتماء، حيث بقيت عائلتي شامخة ولم تستسلم برغم قسوة الظروف.
الشطرة، مدينتي، تلك المدينة الشاعرة والمثقفة التي اشتهرت بأنها "موسكو الصغرى". كانت مدينة تقرأ وتكتب، وامتلأت بأبناء الفكر والثقافة، وبهذا الجو نشأت وترعرعت.
سُميت موسكو الصغرى لما فيها من كثرة المنتمين للحزب الشيوعي العراقي، الشيوعيين المثقفين وأصحاب الوعي والفكر. لقد عشت في هذا الوسط الذي جمع بين الأصالة والتجدد.
ولست ممن يجيدون المديح، ولكن أقول بفخر إنني نشأت وسط المثقفين، سواء كانوا إسلاميين أو شيوعيين. لا فرق عندي، فقد كان الشيوعيون أول من أسس لحركة الثقافة في الشطرة، ثم تبعهم الإسلاميون الذين كانوا من القرّاء المتميزين أيضًا.
في تلك المدينة العظيمة، لم ألحظ فرقًا يُذكر في مستوى الوعي الثقافي بين الإسلامي والشيوعي. كان الجميع إخوةً متحابين، تجمعهم المدينة بما حملته من وعي، فكر، ومفردات اجتماعية راقية.
علي شغاتي: نود العودة إلى تلك الحقبة التي عشتها في تلك المدينة التي جمعت بين مختلف الأطياف، وأريد أن أسألكم : بالنظر إلى خطاب الإقصاء الذي نشهده اليوم، كيف كان الحال في ذلك الوقت؟ هل ظهرت مشكلات أو مظاهر عداء أو حالات عنف، خاصةً في مدينة الشطرة، التي احتضنت هذا التنوع مثل غيرها من مدن العراق؟
الشيخ طالب السنجري: سأضرب مثالاً على ذلك. في منزلنا، كان لدينا موكب يُعرف باسم "موكب السجاد – الطرف الشرقي"، وكان والدي رجلا متدينا بسيطا يدير شؤون هذا الموكب. ورغم أن أغلب أفراد عائلتي كانوا شيوعيين، إلا أنهم كانوا يشاركون في الموكب بشكل طبيعي.
وعندما أقول إن شيوعيين كانوا يشاركون في الموكب، لا أعني بذلك أنهم كانوا أشخاصاً سطحيين أو بعيدين عن الفكر، بل كانوا أصحاب رأي فيما يتعلق بالقضية الحسينية والفكر الإسلامي، ولم يكن وجودهم في هذه الأجواء أمراً غريباً.
أذكر حادثة أخرى حين كنت في العاشرة من عمري. خرج موكب القامة من منزل عمنا الحاج حامد واوية، وكان والدي من ضمن المشاركين. كنت أقف في الشارع حين رأيت موكب القامة يحمل تمثالاً يشبه جثة مغطاة بالدماء. شعرت بالرعب وظننت أن الجثة تعود لوالدي، فبكيت بحرقة. المشهد كان مربكاً للغاية؛ القامات، الدماء، وكل شيء حدث في وقت واحد.
حينها، ناديت على عمي نعيم العصفوري، ـ صاحب مكتبة المتنبي في شارع المتنبي ـ، وقلت له: "هذا أبي!" لكنه هدأني قائلاً: "لا، ليس والدك."
عمي نعيم كان أقرب الشيوعيين إليّ، وكنت أحبه كثيراً. في تلك الفترة، كان يوسف سلمان يوسف (فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراق، يزورنا في البيت، كما اخبرتني والدتي. وكانت هناك محبة كبيرة تجمعه بأفراد عائلتنا، لأن أغلبهم كانوا شيوعيين.
وحين كبرت، سألت أحد أقاربي الذي كان شيوعياً: "ما علاقتك بوالدي (الحسيني) ولماذا كنت تبكي على الحسين؟" فأجابني ممازحاً: "أبكي على والدك." بشكل عام، الشيوعيون لم يكن لديهم قطيعة مع القضايا الدينية. كانت علاقتهم متداخلة مع المجتمع، وكانوا يشاركون في المناسبات الدينية بحب وتقدير، دون أي تصادم أو انقطاع.
علي شغاتي: في ما يتعلق بجيل ما بعد سطوة البعث، يثار تساؤل شائع: لماذا أصبحتم شيوعيين؟ لكنني أرغب في عكس هذا السؤال على جنابكم.
أنت من عائلة يغلب عليها الطابع الشيوعي واليساري. ما الذي دفعك إلى الاتجاه نحو التنظيمات الإسلامية السياسية؟ وأين كانت البداية؟
الشيخ طالب السنجري: البداية كانت في مدينة الشطرة، حيث نشأت فكرياً وثقافياً ونفسياً. كنت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، وكنت قارئاً جيداً منذ سن الثانية عشرة. في ذلك الوقت، كان أحد أقربائي، عزيز عبد ربه، قومياً، لكنه تحول فيما بعد إلى صفوف الإخوان المسلمين.
دعاني للانضمام إليهم، فذهبت. في ذلك الحين، كان مسؤولنا في الناصرية أبو سلام العبايچي، وكنا نجتمع معه أسبوعياً. أما المسؤول العام عن المجموعة، فقد كان الشهيد قيس القرطاس في البصرة، وكان يزورنا شهرياً للإشراف على حلقاتنا.
طبيعة الإخوان المسلمين كانت شبيهة إلى حد كبير بطبيعة الشيوعيين، من حيث الاهتمام بالفرد. كانوا يحرصون على تطوير أعضائهم من خلال توفير الكتب والصحف ومتابعة مدى التزامهم بالقراءة والتعلم.
نشأتُ في هذا الجو الإسلامي حتى عام 1970. في تلك الفترة، التقيت أحد الإخوة في البصرة، وعرض عليَّ الانتماء إلى حزب الدعوة، وهو ما قمت به بالفعل. حزب الدعوة كان محطة فارقة في حياتي، إذ أثرى معرفتي وأضاف لي الكثير. اللقاء الذي جمعني بالسيد محمد باقر الصدر كان نقطة تحول كبرى. وجدته بركاناً من العلم، الزهد، الثقافة، الوعي، والإنسانية، وتأثرت به كثيراً، وذبت في شخصيته وفكره.
علي شغاتي: حدثنا عن علاقتك بالسيد محمد باقر الصدر؟
الشيخ طالب السنجري: بدأت علاقتي بالسيد محمد باقر الصدر في عام 1970. فمثل ما ذكرت اني قد كنت نشأت في بيئة دينية، وتأثرت بأحد رجال الدين الكبار في مدينتنا، وهو الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي، الذي كان بمستوى مرجع وله رسالة علمية. جيلي كله تقريباً ترعرع تحت ظله، وكنت من المداومين على حضور دروسه في المسجد. فقد كان يولي اهتماماً كبيراً بي وبغيري، ويحرص على تثقيفنا وتوجيهنا.
عندما ذهبت إلى النجف في عام 1970، كنت أمتلك خلفية ثقافية ودينية واسعة. كنت قد قرأت شرائع الإسلام، وتعلمت علم المنطق، وأتقنت النحو العربي، وكنت قارئاً جيداً لفكر الآخرين. قرأت كتابات البعثيين، بما في ذلك ستة مجلدات لزكي الأرسوزي، واطلعت على أفكار ميشيل عفلق. كذلك قرأت كثيراً للشيوعيين، وتأثرت بكتاب رأس المال لكارل ماركس، كما كنت أقرأ النشرات في مجلة الثقافة الجديدة.
لاحظ السيد الصدر اهتمامي المتنوع، فقال لي: "لماذا لا تأتي إلى الحوزة؟ سأرعاك، وأنت بمثابة ابني". لم أستطع أن أقول لا للسيد محمد باقر الصدر، فقد استوعبني تماماً وفهم ما بداخلي.
في البداية، لم أكن ميالاً للحوزة ولا لفكرة ارتداء العمامة. قلت له بصراحة: "سيدنا، هل يمكن ألا أرتدي العمامة؟" فأجابني: "ممكن". ومع ذلك، استمر في متابعتي، حتى طرح فكرة العمامة مجدداً، حرصاً على سلامتي بسبب دخولي وخروجي المستمر من الحوزة. كان يرى أن العمامة قد تكون غطاءً يحمي تحركاتي من أنظار الأمن.
لم يكن يعلم السيد الصدر حينها أنني من السادة المشعشعين الموسويين. وانا لم يكن لدي اهتمام كبير بالألقاب مثل "سيد" أو "شيخ". جاء السيد الصدر بالعمامة البيضاء وألبسني إياها، وهكذا أصبحت "الشيخ طالب السنجري". إلى اليوم، يسألني أقاربي: "نحن سادة وأنت الشيخ طالب السنجري، كيف حدث هذا؟"
بصراحة، أشعر بالخجل من فكرة تبديل العمامة، فأنا لم أستفد من الحوزة مادياً، ولم أكن من أولئك الذين يعيشون على الدين أو العمامة. جئت إلى الدين والحوزة بشكل مهني، ولم أعتشِ عليهما.
ولم أسعَ إلى استغلال الدين أو المنابر، ولم أتبنَّ النعي أو الخطابات التي تستميل الجمهور لأهداف شخصية. بالعكس، كنت منفتحاً على الجميع، يساري الفكر، مواطناً يساوي بين الناس دون تمييز. هذا التوجه جلب لي الكثير من الانتقادات؛ هناك من اتهمني بأنني سني، أو شيوعي، أو علماني، أو ليبرالي.
بالنسبة للسيد محمد باقر الصدر، كان وما زال بالنسبة لي قبلة فكرية، ونقطة انطلاق واعية شكلتني ووجهتني نحو الحياة المنفتحة على الأفكار والإنسانية. في السنوات الأولى، كان تأثيره عميقاً في تكويني.
أما اليوم، إذا سألتني عن نظرتي إليه، فلدي بعض التحفظات التي قد لا تتفق مع ما يردده المادحون، لكن يظل السيد الصدر بالنسبة لي شخصية عظيمة أثرت في حياتي وفكري.
علي شغاتي: السيد محمد باقر الصدر، كاتب ومفكر كبير، ومؤسس حزب الدعوة الإسلامية، وهو شخصية تركت أثرا محوظا في العراق خلال القرن العشرين. هل لنا ان نفهم من داخل البيئة الإسلامية نفسها، ما هي الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ عليه؟
الشيخ طالب السنجري: السيد محمد باقر الصدر كان عملاقاً بكل معنى الكلمة؛ ذكي جداً وفقيه متمكن، حيث كان يتعامل مع الفقه الإسلامي كما لو كان عجينة بين يديه. ومع ذلك، بقدر ما كان إنتاجه الفكري مثل فلسفتنا واقتصادنا عظيماً، إذ شكّل ردوداً على الفكر الشيوعي والماركسية، إلا أنني أرى أن عليه كان أن يوازن. بمعنى، كما كتب ضد الماركسية، كان ينبغي عليه أن ينتقد الفكر الرأسمالي أيضاً، ويقدّم تصوراً إسلامياً في مواجهته.
علي شغاتي: وماذا كان يمكن أن يكتب؟
الشيخ طالب السنجري: المسألة تتعلق بصراع المدارس الفكرية؛ هناك المدرسة الماركسية، والرأسمالية، والاشتراكية، والإسلامية. إذا كنت تسعى لإبراز النظرية الإسلامية في الاقتصاد والفلسفة، عليك أن تواجه جميع التيارات الأخرى. الآخرون لديهم فلسفاتهم وأفكارهم، فلماذا تنتقد فكراً معيناً وتترك فكراً آخر دون تفنيد؟ في البداية، كنت أؤيد هذا التوجه لأنه كان يعكس الوضع السائد، لكنني لاحقاً بدأت أراجع هذا الموقف.
علي شغاتي: في ظل انتشار الفكر الماركسي في العراق، والذي دخل بسرعة إلى كل بيت تقريباً وترك أثراً كبيراً، قد أجد العذر لبعض المفكرين الإسلاميين الذين ركزوا على محاربة هذا الفكر باعتباره تهديداً للدين وهو ليس كذلك كما تعرفون.
لكن ألا ترى أنكم، وأقصد هنا المؤسسة الدينية ورجال الدين والقوى الإسلامية، انشغلتم كثيراً بمحاربة الماركسية؟ وفي المقابل، تغاضيتم عن الفكر الرأسمالي، بل وربما وجدتم أنفسكم او لنقل البعض في نهاية المطاف في أحضان المعسكر الغربي، خلال حقبة كانت مقسمة بين معسكرين عالميين؟
الشيخ طالب السنجري: المسألة ليست "ارتماء" بقدر ما هي "غفلة"، بالنسبة للمدرسة الإسلامية الشيعية، لم يكن هناك وعي شامل بمواجهة الرأسمالية كما واجهنا الماركسية. الحوزة الشيعية في تلك الحقبة لم تكن تؤمن بفكرة التشيع كمنهج فكري عابر للحدود. المنهج الذي كان يجمعني مع الشيعي الباكستاني، أو البحريني، أو السعودي، أو الإيراني، كان يواجه تحديات مختلفة.
في ذلك الوقت، كان الشاه في إيران يُعتبر الحامي للشيعة في العالم، وكان يُروّج لنفسه على هذا الأساس، بل إن العديد من رجال الدين الكبار كانوا يرونه "حامي حمى الشيعة". سمعت شخصياً من بعض كبار العلماء الشيعة هذه العبارة. هؤلاء أنفسهم، الذين دعوا لحماية الشاه، وقفوا لاحقاً ضد السيد الخميني، الذي كان يُعتبر "الشيعي المتحرر"، أو كما أحب أن أصفه، "تشي جيفارا عصره".
علي شغاتي: لماذا هذا الانشغال بمحاربة الفكر الماركسي ؟
الشيخ طالب السنجري: في عام 1979 خرجتُ من العراق متوجهاً إلى بيروت، ومنها أرسلني الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى مدينة صور. هناك، أقمت في شقة بمفردي، وكان الهدف أن أصلي في المسجد الذي كان يصلي فيه السيد موسى الصدر رحمه الله. أثناء إقامتي، كنت أسمع صخباً موسيقياً متواصلاً صباحاً ومساءً. كوني شاباً ثورياً ومعمماً ورجل دين، كانت عقليتي تميل إلى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها أسمى وأقدس الفرائض.
نزلتُ إلى صاحب محل التسجيلات الموجود في أسفل البناية. كان شاباً، وقد استقبلني بلطف. قلت له بلهجة مباشرة: "لماذا كل هذه الموسيقى طوال الوقت؟ أولاً، هذا حرام، وثانياً، إنها تزعجني."
ردّ علي متسائلاً: "حرام؟ أعطني دقيقة من وقتك". ثم أعاد تشغيل نفس الشريط المزعج لي. ولكن عندما استمعتُ بتمعّن، وجدتُ نفسي متأثراً، حتى أن عيني دمعتا. سألني: "حرام أم حلال؟" فأجبته: "حلال."
هذا الموقف يعكس جزءاً من طبيعتنا إلى جانب تديننا، نحن نعاني من عقدة تجاه الشيوعيين، نشأت من تربيتنا غير المرنة. مثلاً، كارل ماركس نفسه كان متديناً، لكن لم ينقل لنا أحد هذه المعلومة.
أذكر أن الشيخ معن الكوفي، وهو مجتهد ومدرس في الحوزة، كان زميلي في المدرسة الأزريّة. كنا نسكن معاً، ومعنا السيد كمال الحيدري. وقد درستُ عنده علم النفس، وهو صديق مقرّب للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني. أخبرني أن السيد علي السيستاني قرأ كتاب رأس المال لماركس أربع مرات. لكن كحركة إسلامية، وأخص بالذكر حزب الدعوة، لم يكن خطابنا الفكري والممارساتي مرناً. عندما ذهبت إلى بيروت كداعية، كان معظم أصدقائي من حزب الدعوة مثل الشيخ صبحي الطفيلي، والسيد عباس الموسوي، والشيخ راغب حرب، وغيرهم ممن أسسوا حزب الله لاحقاً. الشيخ محمد مهدي شمس الدين طلب مني التدريس في الحوزة، والتحقت بمدرسة الشهيدين في الغبيري، حيث وفروا لي سكناً، وباشرت التدريس. لاحقاً، طلبت مني منظمة أمل التي أسسها السيد موسى الصدر تقديم محاضرات.
في النجف كنا نجلس على الأرض، لكن عندما دخلت قاعة المحاضرات هناك، وجدتها منظمة؛ رجال ونساء يجلسون بخطوط منفصلة. بعض النساء كنّ محجبات، وأخريات سافرات، ومع ذلك كله كنّ يهتفن "يا علي" كان هذا الجو غريباً عليّ بسبب التربية الصارمة التي تلقيتها. لفت انتباهي أن هناك امرأة تدخن، وهذا زاد من شعوري بالغرابة.
حين بدأت أفكر في المواضيع المناسبة للمحاضرات، اقترح أحد الشباب الحاضرين، أن تكون محاضراتي عن الماركسية.
بالفعل، بدأت أحاضر عن الماركسية، واستمريت إلى أن تحولت هذه المحاضرات إلى كتاب طُبع بعنوان "طرح في الفكر الماركسي"، ونُشر باسمي.
علي شغاتي: أريد أن أسمع رأيك حول فتوى المرجع الديني السيد محسن الحكيم الشهيرة "الشيوعية كفر وإلحاد". هذه الفتوى تبعتها موجة من الدماء والتضحيات الكبيرة، وأثارت العديد من الإشكالات والجدل. دماء العراقيين آنذاك استُغلّت إلى أبعد الحدود من قبل البعثيين ومن سايرهم من القوميين، الذين مارسوا القتل والتهجير ضد مناضلين عراقيين وطنيين كانت غايتهم الدفاع عن العراق وشعبه.
الشيخ طالب السنجري: هناك سببان وراء ذلك: داخلي وخارجي. السبب الداخلي يكمن في أننا كإسلاميين، مثلما نحن اليوم، نجامل الدين السائد ونتماشى معه. في بداية ظهور الشيوعية، كان هناك مفكرون شيوعيون أصيلون يحملون فكراً عميقاً، لكن الشيوعية التي سادت فيما بعد أساءت إلى الشيوعية الأصيلة وإلى الفكر الشيوعي نفسه.
وكما هو معروف فان المرجعية الدينية في النجف لا بد أن تُعبّر عن موقفها في مواجهة الاضطرابات الشعبية. السيد محسن الحكيم، الذي كان المرجع الأعلى وزعيماً وطنياً قبل أن يكون زعيماً دينياً، يعدّ من أبرز قادة ثورة العشرين. كان مناضلاً شجاعاً حمل السلاح وشارك في المعارك، حيث جاء إلى الناصرية مع الحبوبي. الحكيم كان شخصية جماهيرية يتمتع بكاريزما وذاكرة قوية، فضلاً عن كونه أبويًّا في تعامله. لذلك، ارتبط به جيل الدعاة الأول ليس فكرياً، بل انتماءً أبوياً، إذ لم يكن لديه طرح فكري محدد، بل رعاية معنوية وأبوية.
عندما رأى السيد محسن الحكيم الشارع العراقي يشهد تلك انتشار الأفكار الشيوعية، قرر اتخاذ موقف حاسم. تبرأ من أي رجل دين لديه ابن شيوعي. في البصرة، كان هناك سيد من عائلته يُدعى الحكيم، وكان ابنه نوري الحكيم، طبيباً بارعاً وطيب الأخلاق ولكنه شيوعي التوجه. طلب السيد الحكيم من الرجل أن يتبرأ من ابنه، وعندما رفض، أسقطه اجتماعياً، إلى درجة أن الناس توقفوا عن الصلاة خلفه رغم شهرته.
أما على الصعيد الخارجي، فهناك تحليل أطرحه، وقد أكون مخطئاً أو مصيباً. برأيي، يعود السبب إلى حزب "توده" الإيراني، وهو الحزب الشيوعي القوي الذي كاد يصل إلى الحكم في إيران، ما جعله نداً خطيراً للشاه. الشاه أدرك أن التصدي للشيوعيين وإسقاطهم اجتماعياً يتطلب دعماً دينيًّا. لذلك، اعتمد على المرجعية التي أصدرت فتوى تُكفّر الشيوعية وتصفها بالإلحاد. هذه الفتوى فتحت الشارع على مواجهة الشيوعية، وبدأت إثرها موجة من العنف وسفك الدماء.
كرجل دين، أرى أن تلك الفتوى قد تكون صائبة أو خاطئة، لكنها شكّلت جزءًا من قراءة للواقع آنذاك. أما المرجعية اليوم، كما هو الحال مع السيد علي السيستاني، فتتبنى خطاباً مغايراً يقوم على مفهوم المواطنة، في خطابات السيد السيستاني، هناك تركيز واضح على حقوق المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، وهو ما ساهم في حقن دماء العراقيين. هذا النهج يختلف تماماً عن الخطاب السابق للمرجعيات، التي كانت تركز على منطق الدين فقط دون الاعتراف بمفهوم المواطنة.
علي شغاتي: هل تعتقدون أن تضرر البرجوازية الشيعية من ثورة 14 تموز 1958 دفع السيد محسن الحكيم لإصدار مثل هذه الفتوى؟
الشيخ طالب السنجري: لا أنفي ذلك، لكنه ليس السبب الوحيد؛ هناك عدة أسباب اجتمعت. على سبيل المثال، في عام 1976، قام حزب البعث بطباعة كتاب فلسفتنا للسيد محمد باقر الصدر، وقد كتب مقدمة هذه الطبعة وزير التربية عبد الستار الجواري. الكتاب وُزِّع على المكتبات والمدارس، مما يعكس تعامل البعثيين مع الفكر الديني بطريقة انتقائية.
علي شغاتي: جاء البعثيون الى السلطة وحدث ما حدث، ودفع العراقيون الثمن غالياً، كما حدث معك ومع ملايين العراقيين الذين عانوا في الداخل والخارج.
أود أن أسألكم: هل ترى أوجه تشابه بين تلك الفترة وهذه الفترة؟ خصوصاً في ظل ما يحدث حالياً في العراق مع انفراد جهات سياسية معينة بالحكم، خاصة بعد اعتزال السيد مقتدى الصدر للعمل السياسي وانسحاب نوابه.
كما بدأت حملة ممنهجة يُراد تصويرها على أنها فردية، لكنها تعكس منهجاً واضحاً، مثل حظر الاتحادات والمنظمات المهنية، والتضييق على حرية التعبير والصحفيين والنشطاء.
الشيخ طالب السنجري: أعتقد أن هناك أسبابا عدة وراء ما يحدث، ولعلنا نختصرها بأسباب أولها السبب العقائدي حيث ان أغلب من يحكمون الآن هم إسلاميون، ويحملون عقيدة لا تلتقي مع الخط الآخر، سواء كان شيوعياً أو غيره.
وهنا أيضا، السبب النفسي فكما تعلم في عام 1972، تم تشكيل جبهة وطنية بين البعثيين والشيوعيين، والمتضرر الأكبر منها كان الإسلاميون. فقد تضررنا حينها بشكل كبير.
في تلك الجبهة، تعرض الحزب الشيوعي لانتكاسة، ورغم ذلك، بقي حزباً ذا شخصية واضحة. لكن بالنسبة للإسلاميين، تلك الفترة كانت صعبة نفسيًّا. دخولنا السجون ومعاناتنا كان لها أثر نفسي عميق، حتى لو لم نتخلَّ عن الحوار مع أي قوى أو فكر موجود في الساحة، وخصوصاً الشيوعيين، حيث نلتقي معهم في كثير من القضايا المشتركة، الا ان الموضوع ترك أثرا نفسيا عميقا في نفوسنا.
الآن، إذا نظرت إلى ممارسات بعض الشخصيات الإسلامية، تجد أن اليسارية تظهر واضحة في خطابهم أو حتى على مظهرهم، مما يشير إلى نوع من التقاطع أو التوافق غير المعلن. ومع ذلك، تبقى تلك المرحلة مؤذية نفسيًّا للكثير منهم، ويبدو أن بعض القيادات الإسلامية الحالية لم تتخلص من تلك الآثار النفسية.
اما السبب المنهجي فيبدو ان الإخوة الذين يحكمون اليوم جاءوا بلا منهج واضح للحكم. كما يقول المفكر الألماني: "أعطني منهجاً، أعطيك أمة" وغياب المنهج يعني غياب التوجه الواضح لبناء الدولة، ما أدى إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار.
المنهج يجب أن يحدد العلاقة مع الأحزاب العلمانية، والملحدين، والممارسات الاجتماعية المختلفة مثل البارات والكابريهات والمراقد. لكن في ظل غياب هذا المنهج، تصبح الأمور خاضعة لثقافة الفرد الحاكم. إذا كان الحاكم مثقفاً وواعياً، فسينعكس ذلك على قراراته، أما إذا كان متخلفاً، فسينعكس التخلف على الدولة بأكملها.
لذلك، فإن ما نشهده اليوم هو نتيجة مباشرة لغياب المنهج، إضافة إلى تراكمات نفسية وعقائدية من الماضي.
علي شغاتي: هنا تشير إلى أن الحكم في العراق يتبع منهجية قائمة على الأهواء، بعيداً عن الالتزام بالدستور والقوانين.
الشيخ طالب السنجري: الدستور والقوانين في حد ذاتها مفخخة، لكنها رغم عيوبها تبقى ضرورية. يجب أن يكون للبلد دستور، ونحن مع الدستور رغم مشكلاته، لأنه الأساس الذي يُفترض أن يحكم البلاد.
أنا، كمواطن عراقي، لو كان الدستور هو الحاكم الفعلي، لكنت مطمئناً، ولكن الواقع يقول إن الذي يحكم هو رأي الحاكم، وتوجهاته، وثقافة حزبه، وانتماءاته، وهذا النهج يؤدي إلى تدمير البلد.
من جهة أخرى، كرجل دين ومسؤول عن مؤسسة تُعنى بالتعايش والحوار، لا أرى تعايشاً ولا حواراً حقيقياً على الأرض، لأن فكر المواطنة غير موجود أساساً.
علي شغاتي: فكر المواطنة دائماً يظهر في كتاباتكم، حيث تدعون إلى تأسيس فقه وطني. لكن هناك تساؤل يُطرح: هل يوجد فقه غير وطني؟ وما هو؟ وهل هناك صراع بين الفكرين على أرض الواقع أم أن الأمر نظري فقط؟
الشيخ طالب السنجري: نعم، هناك فقه غير وطني، والصراع بينهما نظري وواقعي على حد سواء. الفقه الوطني يؤسس للتعايش بين أفراد المجتمع دون النظر إلى اعتقاداتهم، أو إثنياتهم، أو أعراقهم، أو لغاتهم. أما الفقه غير الوطني، فهو الذي يكرّس الانقسامات ويعتمد على الولاءات الضيقة التي تعرقل بناء دولة المواطنة.
علي شغاتي: هل يمكننا تأسيس فقه وطني بالاعتماد على المؤسسات الدينية الحالية؟ وهل هي قادرة على ذلك؟
الشيخ طالب السنجري: أبداً، المؤسسات الدينية الحالية ليست قادرة على ذلك. أستثني من هذا السيد علي السيستاني، الذي يمتلك وعياً وفكراً وطنياً، لكن هذا الفكر غير مكتوب أو مؤسس، بل يقتصر على التوجيهات العامة ايضا.
المؤسسات الدينية لم تكتب حتى الآن فقهاً وطنياً، وربما لا تعجز عن ذلك، لكنها تركز على كتابة ونشر الرسائل العملية فقط. هذه الرسائل لا تُسهم في بناء وحدة تجمع العراقيين، ولا تؤسس لموقف موحد في الثقافة أو الفكر أو الانتماء.
أنا أريد أن يرتبط المواطن بالدولة، سواء كانت مؤمنة أو كافرة، وأن يدفع الضرائب، ويلتزم بنظام المرور، والنظام الصحي والاجتماعي. كما هو الحال في أوروبا، حيث الناس تعيش وفق القانون والدستور، ويحكمهم هذا الإطار الواضح بعيداً عن الانتماءات الضيقة.
شغاتي: هل ترون أن الدين نفسه يحتوي على فقه وطني؟
الشيخ طالب السنجري: الدين في جوهره قائم على الفقه الوطني. عندما دخل رسول الله محمد الى مكة منتصراً، رغم أنها المدينة التي عذبته وطردته وجوعته، كان للنبي فقه وطني واضح.
فقد دخل منحني الرأس على فرسه تواضعاً، وعندما قال له أحد الصحابة: "ارفع رأسك يا رسول الله، ألسنا منتصرين؟"، رد النبي: "أستحي من الله."
هذا مثال على الأخلاق والفقه الوطني، وهو ما ظهر جلياً عندما قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" لم يُقدم على الذبح أو الانتقام، بل منح الأمان للجميع، مخالفاً التوقعات.
علي شغاتي: بعد عام 2003، دخل العراق تجربة سياسية جديدة غير مألوفة. النظام السياسي تأسس على أنقاض الاحتلال وبقايا الحقبة الدكتاتورية، ولكنه بني على أساس المكونات بدلاً من الهوية الوطنية الجامعة، ما أدى إلى ظهور الهويات الفرعية واختفاء القانون. كيف تُقيم هذه العملية السياسية بعد عام 2003؟
الشيخ طالب السنجري: يجب أن نكون واضحين؛ الأمريكيون أرادوا فرض نموذج يشبه "لبننة" العراق (نظام المكونات في لبنان)، وهو نفس المشروع الذي يُراد تطبيقه في سوريا والمنطقة بأسرها.
لكن المشكلة ليست فقط عند الأمريكيين، فهم يسعون للسيطرة واستعادة نهج الاستعمار. الغباء الأمريكي يكمن في محاولتهم إعادة هذا النمط في عصر لم يعد يقبل الاستعمار والاستغلال.
كان يُفترض، رغم رفضي المطلق لأي احتلال، أن يظهروا بصورة إيجابية أثناء احتلالهم للعراق. ففي الداخل، أمريكا تُعتبر جنة تُحكم بالقانون، بينما في الخارج تمارس سياسة أشبه بخنزير في حظيرة قذرة. وكل من رافق الاحتلال أو دعمه، تلوث بتلك القذارة.
كان يجب علينا كعراقيين، سواء عبر المنظمات، العشائر، المرجعيات الدينية، أو الحكماء، أن نقف بحزم ضد نظام المحاصصة. نعم، انتقد الكثيرون المحاصصة، لكن انتقادهم كان أشبه بكتابة مقال دون اتخاذ موقف عملي.
علي شغاتي: هل تعتقدون أن عدم التصدي لنظام المحاصصة كان لدوافع مصلحية؟
الشيخ طالب السنجري: بالتأكيد الجميع استفاد من نظام المحاصصة، لأنها تدر الأموال والمنافع، وعند الحديث عن هذا الموضوع فبالرغم من ان السيد السيستاني يُعد نموذجاً إيجابياً؛ فهو يستقبل الجميع من السنة والمسيحيين والإيزيديين، سواء رجالاً أم نساءً. لكن انتقادي الوحيد له هو أنه لم يستخدم "العصا لمن عصا". أعتقد أنه كان ينبغي أن يكون أكثر صرامة في مواجهة هذه التجاوزات من قبل القوى الماسكة للسلطة.
علي شغاتي: هل تعتقدون أن المرجع الديني الأعلى في العراق قادر على كبح جماح قوى متنفذة بما تمتلكه من فصائل مسلحة ومؤسسات اقتصادية؟ خاصة مع ما صدر مؤخراً عن المرجعية، حينما انتقدت الفساد والمحاصصة وعدم حصر السلاح بيد الدولة. بعد ذلك، خرجت شخصيات بارزة محسوبة على المكون الشيعي عبر وسائل الإعلام لتقول إن المرجعية لم تقصد حصر سلاح الفصائل، وربما كانت تشير إلى سلاح الأمريكيين!
الشيخ طالب السنجري: هذا يدل دلالة قاطعة على أن المرجعية لا تمتلك مكاتب ذات صفة رسمية تفسر بشكل واضح ما تقوله المرجعية، مما يترك تصريحاتها مفتوحة للتأويل والتفسير حسب المصالح.
علي شغاتي: هل تعتقدون أن الإمعان في زج الدين في أروقة الدولة يؤدي إلى إساءة يتحمل الدين عواقبها؟
الشيخ طالب السنجري: أتفق مع فكرة عدم زج الدين في السياسة، بل أذهب أبعد من ذلك؛ أعتبر أن الدين السائد اليوم ليس هو الدين الحقيقي. الدين الحقيقي هو الإيمان بالله ورسوله والقرآن، وهو الجامع الذي يحتضن كل الأديان.
إذا فهمنا الدين بهذا الشكل، فعلى كل فرد أن يعبر عن تدينه بحرية، دون فرض مفاهيمه على الآخرين أو مطالبتهم بالانتماء إليه. الدين مسألة شخصية بحتة، ولا ينبغي أن يكون أداة للمجازفة بمصير الشعوب أو التشريعات.
ما يحدث اليوم يُظهر مخاطر زج الدين في الحياة السياسية. خذ مثال الصهيونية العالمية؛ لقد جازفت باليهودية واحتلت فلسطين، قتلت أطفال غزة، وارتكبت جرائم في لبنان. كل هذا لأنها زجت الدين في مشروعها السياسي.
علي شغاتي: هل تابعتم ما يجري في العراق مؤخراً بشأن تعديل قانون الأحوال الشخصية؟ هذا الموضوع أثار جدلا وسجالا كبيرين، أدى إلى تعطيل عمل البرلمان الذي يعاني أصلاً من ضعف واضح وعجز عن تحقيق أبسط أدواره التشريعية.
وبعيداً عن الجدل، أسترجع في ذاكرتي ما حدث عندما جاءت هذه الأحزاب إلى السلطة، حيث بدأت قضم المؤسسات الاقتصادية للدولة، وأقامت مكاتبها التي حلت محل الدولة. بعد ذلك، سيطرت على المؤسسة الأمنية وأوجدت إطاراً قانونياً لبعض عناصرها.
اليوم يبدو أن الأمر وصل إلى قضم المؤسسة القضائية. هل نحن متجهون نحو نموذج يشبه لبنان؟ هل هذا هو الهدف من هذه التعديلات؟
الشيخ طالب السنجري: لا أعتقد أن هذا هو الهدف، ولا يمكنني التشكيك في نوايا القائمين على هذه التعديلات. أعرف معظمهم وأعرف تاريخهم في المؤسسات القضائية والتنفيذية والتشريعية. بحسب معرفتي، قد يكونون مشتبهين، لكن الحديث عن خيانة أو سرقة مبالغ فيه، لدي حرص شخصي على ألا أتهم أحداً بدون دليل أو أن أنساق مع الشارع في توجيه اتهامات بالفساد.
علي شغاتي: صحيح أن جزءاً من الحديث عن الفساد شعبوي، لكن هذا لا ينفي وجود فساد كبير في العراق، والذي أدى إلى تفاوت طبقي واضح نتيجة هذه العمليات. السؤال هنا : لماذا تواصل هذه القوى قضم مؤسسات الدولة بدل أن تسعى إلى تقويتها؟
الشيخ طالب السنجري: ليست هناك مؤسسات قائمة بالأساس لتُقضم. الجيش، على سبيل المثال، حله بريمر، وتم تدمير الدولة بالكامل، وليس فقط النظام السابق. الأمر يتطلب إعادة بناء المؤسسات الحكومية وإعادة الوعي الوطني للعراقيين، وهو دور يجب أن تشترك فيه الأحزاب، سواء كانت إسلامية أو علمانية.
علي شغاتي: الحديث عن أمن العراق وتجنيب العراقيين ويلات الحرب يطول. سنوات طويلة عاشها العراق في حروب متتالية، ملأت حياة الناس بالمعاناة والآهات.
الآن، بعد 14 شهراً على "طوفان الأقصى" وما تبعها من استشهاد قيادات مثل هنية والسنوار ونصر الله، إلى جانب تغيير النظام السوري، نجد أنفسنا أمام صراعات إقليمية ودولية معقدة.
بعيداً عن الحلول الأمنية، التي أثبت التاريخ أنها ليست دائماً ناجعة، ما الذي ينبغي على العراق فعله لتجنيب الشعب العراقي خطر هذه الصراعات؟
الشيخ طالب السنجري: العراق كدولة واحدة وجامعة لا علاقة له بلبنان أو فلسطين أو حتى أمريكا وإيران. أنا عراقي، وما يهمني هو العراق فقط. ليس هذا لأنني أفتقر إلى الضمير الوطني، بل لأننا كدولة غير قادرين على التدخل في هذه القضايا الدولية.
عندما نصبح بحجم روسيا أو أمريكا أو الصين، وضمن توازنات القوى العالمية، يمكننا أن نكون حاضرين في المشهد الدولي. أما الآن، فالأولوية يجب أن تكون لبناء العراق والحفاظ على شعبه.
علي شغاتي: هل هذه دعوة للنأي بالنفس عن الصراعات؟
الشيخ طالب السنجري: نعم، أدعو لأن أعيش تحت شجرتي آمناً ومطمئناً، وآكل لقمتي بسلام.
علي شغاتي: إذاً، كيف تردون على من يقول إنه إذا تم الخلاص من لبنان، سيأتي الدور على سوريا، وبعدها العراق؟
الشيخ طالب السنجري: أقول له: لقد حصلت على النتيجة التي تريدها، املأ جيبك وابقَ في مكانك، واستمر كتاجر حروب. أما أنا، فأختار أن أكون تاجر سلام.
علي شغاتي: هل تعتقدون أن هؤلاء الأشخاص تجار حروب؟
الشيخ طالب السنجري: نعم، هم بلا شك تجار حروب. لماذا يجب أن يذهب أبنائي وشبابي للقتال بينما بيتي لا يزال غير مرمم؟ لم أبنِ مؤسسات أو مجتمعاً بعد، ولدي آلاف المشكلات الداخلية التي يجب حلها. كيف يمكن أن أترك بيتي وأذهب لترميم بيت جاري؟ بأي منطق؟ الحل هو أن نتحدث ونكتب، ونحن لسنا بمأمن من السوقية التي تحكم الواقع.
علي شغاتي: هل ما زلتم تعتقدون أن الانتخابات هي الحل الوحيد للتغيير في العراق؟
الشيخ طالب السنجري: صندوق الانتخابات ليس مقدساً، لكنه يمثل حلاً مثالياً لقضايانا وخطوة في الاتجاه الصحيح. الانتخابات تعلم الناس على المشاركة، مثل استخدام الحبر الأزرق للإدلاء بأصواتهم.
أتذكر أن أحد المراجع الكبار قال إنه لا يمكن انتخاب الشيوعيين، لكنني أقول إن صندوق الانتخابات ليس شيعياً، إسلامياً، أو شيوعياً. إذا صوّت الشعب واختار رئيساً شيوعياً، شيعياً، أو سنياً، فما المانع؟ لماذا نعيش في دوامة التناحر والتاريخ؟ يجب أن نترك كل هذا خلفنا ونركز على بناء الحاضر.
علي شغاتي: هل يمكن أن يكون للدولة دين؟
الشيخ طالب السنجري: إذا صار للدولة دين، فإنها ستنهار ويحل الخراب، فالأديان تقود الأشخاص، وليس الدول أو الحكومات أو الأحزاب.
علي شغاتي: هل يمكن أن تسلط الضوء على تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران؟ وهل تعتقد أن الغرب تخلّى عن الشاه في تلك اللحظة لصالح الخميني بهدف إنشاء دولة إسلامية في إيران لقطع امتداد الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى نحو العراق وسوريا؟
الشيخ طالب السنجري: السيد الخميني كان معادياً للغرب بشكل تام، ولم يترك مجالاً لأي تقارب معه؛ فقد أغلق أذنيه وقلبه تجاهه. لقد عاصرت السيد الخميني وعشت في تلك المرحلة التي كانت من أصعب مراحل الانتماء إلى هذه الثورة. عرفت السيد الخميني منذ ان كان في النجف، وتأثرت بشخصيته وقيادته. كان يمتلك كاريزما فريدة لا يمتلكها أحد غيره.
الثورة الإيرانية امتدت إلى أكثر من 20 عاماً، والسيد الخميني هيّأ لهذه الثورة منذ سنوات طويلة عبر أشرطة الكاسيت والأساتذة في الجامعات، حيث ربّى جيلاً انتمى إلى هذه الثورة.
فالدكتور علي شريعتي كان العمود الثقافي الذي استندت إليه الثورة، وكان خمينياً بامتياز، ولكنه لم يكن مجرد إنسان بسيط يتبع من دون تحليل؛ فقد كان عالماً اجتماعياً بارعاً. تعاضدت جهود الخميني، وعلي شريعتي، ومرتضى مطهري، وباقي القوى الوطنية الايرانية، واتفقوا على تشكيل هذا الحراك الثوري. السيد الخميني نجح في استقطاب هذه الجهود، وحتى بعض عناصر الحزب الشيوعي الإيراني (توده)، حيث رأوا فيه رجلاً وطنياً وحدوياً أكثر من كونه دينياً.
السيد الخميني قبل الثورة كان شخصية، وعند استلام الحكم أصبح شخصية أخرى، كما يحدث مع معظم الثوار. الشعب الإيراني أحب الخميني، لأنه رأى فيه المخلّص من فساد الشاه الذي لم يكن يمتلك الكاريزما أو المصداقية للاستمرار في الحكم، خاصة مع تفشي الفساد والجوع والمطاردات السياسية.
الخميني جاء كنتيجة طبيعية لهذا الحراك الشعبي، ولم يكن للغرب يد في مجيئه للحكم. الغرب ببساطة لم يكن قادراً على فهم شخصية الخميني وتحليلها. كانوا ينتظرون أن يهدأ الوضع، معتقدين أن الخميني قد يتحول إلى مجرد رجل دين يصلي بالناس ويجمع الخمس. لكن الخميني كان أذكى من ذلك؛ فقد قرأ هذه المعادلة جيداً.
وعندما وصل إلى طهران، استقر أولاً في مدرسة ابتدائية بدلاً من قصر أو مركز قيادة، وعندما استلم الخميني الحكم، استغل عمامته وطرح فكرة الاستفتاء الشعبي على نظام الحكم، حيث اختار الشعب النظام الإسلامي. لكن الفكر الشيعي الذي يحمله الخميني لم يكن شاملاً بما يكفي ليجمع المسلمين كافة تحت مظلته. لذا، تم تبني مفاهيم شيعية مثل ولاية الفقيه، مما خلق فجوة بين النظام الإيراني والأنظمة الإسلامية الأخرى.
على الرغم من ذلك، يجب الإشارة إلى أن الجمهورية الإسلامية حققت مكانة قوية في المنطقة. صحيح أن لديها مواقف إيجابية في الدفاع عن المستضعفين ومواجهة الهيمنة الأمريكية، إلا أن هناك أيضاً ملاحظات كثيرة على أدائها، وخاصة في منهجيتها وتطبيقاتها العملية.
علي شغاتي: كيف تقيمون تجربة حكم الإخوان المسلمين في المنطقة، سواء في مصر أو تونس، وحالياً مع احتمالية تجربة جديدة في سوريا؟ وإذا أمكن، كيف تأثرت التيارات الشيعية بفكر سيد قطب، حسن البنا، وغيرهما من مفكري الإسلام السياسي؟ كيف ترى هذه التجربة؟
الشيخ طالب السنجري: الإسلام السياسي سقط على يد الإخوان المسلمين، وإعادته إلى المشهد هي مجازفة، كما أن الإيمان به بشقيه الشيعي والسني يمثل مجازفة، والسبب ببساطة هو أن القوى الإسلامية لا تمتلك نظرية حكم متكاملة.
اليوم، نحن نعيش في ظل حراك اجتماعي متسارع ونظريات جديدة تتشكل يومياً، ومع ذلك، نجد أن الشيعة غارقون في خلافات حول علي وعمر، بينما السنة يعيشون تحت وطأة نظرية الخلافة. هذه التناقضات التاريخية والمذهبية تجعل من الصعب أن يكون أحدهم حاكماً لبلد متنوع الإثنيات، الأعراق، اللغات، والثقافات.
لذلك، البديل الحقيقي هو إعادة توجيه وعي العراقيين نحو "فقه وطني" بدلاً من "فقه ديني". هذا الفقه الوطني هو السبيل الوحيد لبناء دولة عادلة وشاملة تستوعب جميع مكوناتها.