منذ عام 2003، شهد العراق تحولات جذرية في بنيته السياسية، حيث باتت المحاصصة الطائفية والعرقية أساس النظام السياسي الجديد. وعلى الرغم من أنها استهدفت تحقيق توازن بين مكونات الشعب، إلا أن هذه السياسات ساهمت بشكل كبير في تآكل مفهوم الدولة الوطنية، بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية. أفرزت المحاصصة بيئة مؤاتية لانتشار السلاح المنفلت، وأدت إلى ظهور جماعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة. هذه الجماعات تحولت إلى أدوات نفوذ حزبية وطائفية، مما قوض هيبة الدولة وأضعف قدرتها على فرض سيادة القانون.
السلاح المنفلت وتأثيره على استقرار العراق
انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة لم يؤثر فقط على الأمن العام، بل أصبح تهديداً مباشراً لاستقرار البلاد. فقد تحولت الجماعات المسلحة إلى مراكز قوى موازية، تستخدم السلاح لتحقيق مصالحها السياسية أو الاقتصادية، مما أدى إلى تعطيل بناء جيش وطني قوي وموحد. كما أن ضعف مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية عزز من شرعية هذه الجماعات لدى بعض الفئات المجتمعية التي ترى فيها وسيلة للحماية أو الدفاع عن الحقوق. هذا الوضع أدى إلى ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة، والنزاعات المسلحة، وزعزعة الثقة بين المواطنين والدولة، فضلاً عن عرقلة الاستثمار والتنمية.
حصر السلاح بيد الدولة: التشريعات كخطوة أولى
للتغلب على هذه الأزمة، يجب أن تكون الخطوة الأولى إصدار قوانين صارمة من قبل مجلس النواب العراقي تنظم حيازة واستخدام السلاح. يجب أن تتضمن هذه القوانين عقوبات مشددة على حيازة السلاح غير المرخص، وآليات واضحة لاسترداد الأسلحة المنتشرة. كما يجب أن تُدعم هذه التشريعات بإرادة سياسية قوية تضمن تطبيقها على الجميع دون استثناء، بما في ذلك الفصائل المسلحة التابعة للأحزاب السياسية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تعزيز دور القضاء لضمان محاسبة المخالفين بشفافية وعدالة، وتشكيل لجان مشتركة من الجهات الأمنية لمتابعة التنفيذ.
إلى جانب التشريع، يجب أن تشمل الخطة برامج لتوعية المجتمع بمخاطر السلاح المنفلت. كما يمكن تقديم حوافز اقتصادية واجتماعية لتشجيع تسليم الأسلحة، مثل توفير فرص عمل بديلة لأفراد الجماعات المسلحة ودمجهم في المجتمع، لضمان الانتقال السلمي نحو دولة مدنية خالية من السلاح.
التعاون الدولي ودور المجتمع المدني
إلى جانب الجهود المحلية، يمكن للعراق الاستفادة من خبرات وتجارب الدول الأخرى التي نجحت في نزع السلاح وإعادة دمج المقاتلين. التنسيق مع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، يمكن أن يوفر دعماً تقنياً ومالياً لتنفيذ برامج نزع السلاح، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية والمساءلة. كما يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دوراً محورياً في بناء جسور الثقة بين الدولة والمواطنين، من خلال مبادرات توعية وبرامج لإعادة دمج أفراد الجماعات المسلحة في الحياة المدنية.
لا دولة عصرية مع السلاح المنفلت
لا يمكن تصور بناء دولة عصرية مستقرة مع وجود السلاح المنفلت الذي يقوض مؤسسات الدولة ويعزز الفوضى. الدولة الحديثة تقوم على سيادة القانون، حيث يكون احتكار السلاح بيد المؤسسات الشرعية وحدها. لذا، حصر السلاح بيد الدولة ليس مجرد مطلب أمني، بل هو شرط أساسي لبناء مؤسسات قوية قادرة على إدارة شؤون البلاد بكفاءة.
دون خطوات جادة وفعالة لحصر السلاح، سيبقى العراق عالقاً في دائرة العنف، مما يعوق تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة. الإرادة السياسية الصادقة، إلى جانب الدعم المجتمعي والدولي، يمكن أن تكون حجر الأساس في إعادة بناء الدولة العراقية كدولة قانون ومواطنة.