تناولت في مقالين سابقين محاولتي لإعادة ترتيب أطروحات ماركس عن فيورباخ وتقسيمها الى أربع مجموعات بهدف تسهيل فهمها، وسأعرض هنا المجموعتين الثالثة والرابعة.
المجموعة الثالثة: يعود ماركس إلى نقد برونو باور ويضم الآن فيورباخ
الأطروحة الثانية: «ان معرفة ما إذا كان للتفكير الإنساني حقيقة واقعية هي ليست مسألة نظرية، بل مسألة عملية؛ ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان ان يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره، وانحياز تفكيره في الممارسة. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن الممارسة هو سؤال مدرسي بحت».
الأطروحة الثامنة: «ان الحياة الاجتماعية هي بالأساس حياة عملية. وكل الأسرار الخفية التي تقود النظرية نحو الصوفية تجد حلها العقلاني في الممارسة الإنسانية وفي فهم هذه الممارسة».
نجد هنا نوعا من إعادة صياغة للتعليقات التي أدلى بها ماركس في كتاب العائلة المقدسة في هجومه على برونو باور، وتكرار أيضا للنقطة التي أثارها في المجموعة الثانية في ما يتعلق بنظريته حول مصدر المعرفة (نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، خاصة في ما يتعلق بأساليبها وصلاحيتها ونطاقها. إنها التحقيق في ما يميز الاعتقاد المبرر عن مجرد رأي).
يقول ماركس إن الفلاسفة فشلوا في إيلاء اهتمام كافٍ للعالم المادي الحقيقي، وتحديدا، كيف يتغير هذا العالم مع مرور الوقت. لذلك، كانوا راضين عن التفكير في المفاهيم المجردة (الحب، العدالة، الذات، الوجود، الله، إلخ.) وهذا هو ما قادهم جميعا إلى التصوف والبحث عن مثال أعلى “حقيقي” يمكن أن يعطي معنى لجميع المفاهيم الأخرى.
وحسب ماركس فأن هذا هو بالضبط ما حدث لهيغل عندما شرح كل التاريخ الإنساني على أنه مجرد عملية لإدراك الروح المطلقة لنفسها بمرور الوقت، تاركا وراءه كل ما خلفه التاريخ من الحضارات وأشكالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتنوعة.
ولكن إذا كان ماركس قد انتقد هيغل ومثاليته المتطرفة، فأنه يجادل الآن بأنه حتى المادي، المؤمن بعقيدة الظروف المتغيرة ليفسر التغييرات في السلوك الإنساني، مثل فيورباخ، يمكن أن يقع في هذا الفخ إذا كانت المفاهيم المجردة - “الحب” في حالة فيورباخ – تقف مقابل المجتمع، بدلا من محاولة فهم الأفكار على أنها ناشئة عن ظروف تاريخية مؤقتة ومتغيرة.
على سبيل المثال، هل “الحب” له نفس المعنى حقا عند العبد ومالك العبيد؟ هل يستوي مفهوم “العدالة” الذي نادى به المتظاهرون في انتفاضة تشرين وبين طغمة الفساد الحاكمة؟ بالطبع لا، فالظروف الاجتماعية التي تعيشها غالبية الشعب تختلف عن الظروف الاجتماعية التي تعيشها طغمة الفساد ومن هنا تنشأ المعرفة المتباينة لنفس المفهوم وفقا لماركس.
المجموعة الرابعة: يجادل ماركس بأن الهدف من الممارسة الثورية هو فهم المجتمع (الرأسمالي) القائم والإطاحة به.
الأطروحة التاسعة: «إن الذروة التي بلغتها المادية التأملية، أي المادية التي لا تفهم الحسية كنشاط عملي، إنما هي تأمل أفراد منعزلين، وتأمل مجتمع مدني».
الأطروحة العاشرة: «إن وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع “المدني”؛ وجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع الإنساني أو الإنسانية الاجتماعية».
الأطروحة الحادية عشرة: «ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة، لكن المهمة تتقوم في تغييره».
يبدو أن الأطروحتين التاسعة والعاشرة لا معنى لهما حتى ندرك أن ما يعنيه ماركس بعبارة “المجتمع المدني” هو التصور الليبرالي عن المواطنة والديمقراطية الذي لا يأخذ في الاعتبار حقائق “المجتمع الإنساني” الملموسة والمحددة تاريخيا، انه في الواقع، مجتمع رأسمالي مقسم طبقيا. هذه هي النقطة التي توصل اليها ماركس في الأطروحة السادسة، لكنه لم يستخدم مصطلحات المجتمع “المدني” أو “الإنساني”.
ان ماركس ينتقد فيورباخ طوال الوقت لفشله في تحليل مجتمعات طبقية معينة، وكيف تغيرت بمرور الوقت. والأطروحتان التاسعة والعاشرة هما وعد منه للقيام بذلك، تفصيليا، في أعماله القادمة.
إذا كنت محقا في تقسيمي لأطروحات عن فيورباخ الى أربع مجموعات، وإذا كنت قد تابعتني، يمكننا الآن، أخيرا، إعادة كتابة أطروحة ماركس الحادية عشر الشهيرة، بما يتوافق مع القرن الواحد والعشرين، على النحو التالي:
«لم يدرس الفلاسفة كيف ولماذا يتغير التاريخ الإنساني عبر الزمن. وبدلاً من ذلك، فقد أخطأوا في اعتبارهم أن المجتمع الذي ولدوا فيه يشبه في الأساس كل تاريخ الإنسانية، من جنة عدن إلى ديزني لاند؛ لقد قاموا فقط بتفسير العديد من المفاهيم المجردة السرمدية، التي من المفترض أن لها علاقة بالروح أو الوجود الأبدي للإنسانية. بينما الهدف هو دراسة المجتمع الطبقي الموجود بالفعل والذي تعيش فيه من خلال المشاركة في النضال لتغييره؛ وفقط من خلال دمج العمل الفكري والاجتماعي-السياسي في شكل جديد من الممارسة الثورية (باراكسيس) يمكن للمعلم (الجماهير نفسها) أن يتعلم (من خلال عملية التفكير-الفعل-التفكير الخاصة بهم أو، بدلا من ذلك، عملية الفعل-التفكير-الفعل الخاصة بهم) من أجل اكتساب المعرفة النظرية الضرورية للفوز في ذلك الصراع العملي».
هذه هي اللقمة الدسمة التي أراد ماركس تقديمها لنا، وهذا ما يفسر لنا لماذا نترك عادة الأطروحات العشرة الأولى ونقفز مباشرة الى الأطروحة الأخيرة! هذا هو ماركس لا يطرح أفكاره بسهولة لأنه مؤمن بأن صعوبة التفكير لا تقل عن صعوبة الفعل والعكس صحيح، وأنه إذا كنا (والملايين من رفاقنا وأصدقائنا) نريد أن نكون معلمين / متعلمين ومؤثرين ثوريا، علينا ان نتعلم كيف نقوم بالتفكير والفعل في آن واحد.