تربطني بالشاعر عبد الرزاق كميل (أبو قمر) علاقة طويلة بدأت في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ومرت بفترات انقطاع بسبب الظروف المعروفة التي مر بها العراق، وكانت لقاءاتنا بين فترات متباعدات.
وبعد سقوط النظام السابق، وعودة الحياة الطبيعية، التقيت به في مقر الحزب الشيوعي العراقي في الحلة، وكانت الأيام قد فعلت فعلها وغيرت تلك الوجوه الزاهية بنضرتها وشبابها، وبدأت العلاقة مجدداً وأخذت طريقها للتواصل والنمو والازدهار بحكم الأعمال التي تربطنا سواء في العمل الحزبي أو الثقافي.
ولد الشاعر في قضاء المحاويل سنة 1942 ودرس في مدارسها حتى أكمل دراسته الثانوية في العام الدراسي 1965-1966، وكان في طليعة أقرانه تفوقا ونشاطاً وحاز أعجاب أساتذته الذين وجدوا فيه قابليات أدبية حظت منهم بالتشجيع والرعاية فكان الخطيب والمنشد في الاصطفاف الأسبوعي والحائز على أعلى الدرجات في دروس العربية، وبدأت بواكير نشاطه بمساهمته في تحرير النشرات المدرسية التي كانت المجال لنمو وتطوير التوجهات الأدبية والفنية للطلبة، ولكن الأحداث العاصفة بعد ثورة الرابع عشر من تموز، والإسهام في الأنشطة الطلابية أثر على مواصلته الدراسة فتعثر فيها بسبب الاعتقالات والمضايقات والاختفاء.
بدأت مسيرته الشعرية بالنشر في الصحف فكانت جريدة الراصد وصحيفة المجتمع وابن البلد والمنار وغيرها من صحف تلك الفترة ميدانه الواسع للنشر، وأسهم في المهرجانات الشعرية المحلية التي تقام في محافظة بابل أو المهرجانات الوطنية التي تحتضنها المحافظات الأخرى – الناصرية – الديوانية – السماوة – البصرة ومنها المهرجان الوطني الذي أقيم برعاية مديرية الموانئ العراقية في البصرة سنة 1973 وكذلك المهرجان الوطني للشباب الذي أقيم في السماوة، وغيرها من المهرجانات.
تأثر الشاعر برائد المدرسة الحديثة في الشعر الشعبي الشاعر الكبير مظفر النواب وقرأ عليه بعض قصائده في لقاءات خاصة، واحتفظ معه بعلاقات استمرت حتى وفاته، وقد انتمى لجمعية الشعراء الشعبيين وأسهم في أماسيها ومهرجاناتها ولكنه أبتعد عنها بعد أن تحولت إلى واجهة للسلطة، وهيمن عليها أزلام النظام البائد، وعزف عن المشاركة في النشاطات الشعرية مكتفيا بالكتابة لنفسه، ومعالجة الهموم الاجتماعية.
عمل مع الشيوعيين مؤازرا منذ العام 1956 عندما شارك في التظاهرة المنددة بالعدوان الثلاثي على مصر، واستمر في علاقته مع الحزب عاملا في اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية فكان هذا طريقه للانتماء للحزب، فكان الانتماء لهذه المنظمات البدايات الأولى للترشيح إلى الحزب وهي من المراحل الضرورية في السلم الحزبي.
لذلك ما أن انبثقت ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حتى بادر الحزب للاستفادة من كوادره الشبابية التي كانت تعمل في هذه المنظمات فزج بالجيدين منهم للعمل في صفوفه وحصلت استثناءات للبعض ممن لم يبلغوا الثامنة عشرة من عمرهم لقبول عضويتهم نظرا لأهميتهم وما قدموه للحزب سابقا وكان من هؤلاء عبد الرزاق كميل الذي اكتسب شرف العضوية في ذلك العام وعمل بنشاط ودأب في المنظمات الحزبية والجماهيرية ناشطا متحمسا له مكانه بين المميزين من الرفاق.
وبعد الفتور في العلاقة بين الحزب والزعيم عبد الكريم قاسم، وخصوصا بعد أحداث 1959 وما جرت من مؤامرات رجعية لإفساد العلاقة مع حكومة الثورة، وقيام الحكومة بالتضييق على الشيوعيين وإغلاق صحفهم ومحاربة نشاطهم، واضطرار الحزب للعمل السري، كان للفقيد دوره المؤثر في العمل التنظيمي والتحرك بين الخلايا الحزبية في المدينة والريف ما جعله عرضة لمراقبة رجال الأمن، فاعتقل على خلفية توزيع منشورات في المدينة وأرسل إلى أمن الحلة، واستطاعت أسرته بفضل علاقاتها ومكانتها الاجتماعية إطلاق سراحه.
وعندما وقف الحزب الشيوعي موقفا مؤيدا للحركة مطالبا بالديمقراطية للعراق والسلم في كردستان وسرعان ما انتشر هذا الشعار في جميع المدن العراقية.
كان الفقيد حينها يعمل في منظمة المحاويل للحزب، وكلف مع مجموعة من الرفاق بكتابة الشعار المذكور على الجدران في المدنية ليلا، فتوزع الرفاق على مناطقها المختلفة يخطون هذه الشعارات، وعندما كان الفقيد يقوم بكتابة أحد الشعارات فاجأه أحد الحراس الليليين بإطلاق رصاصة أصابت يده اليمنى بجرح أدى إلى حدوث عوق ظاهر فيها، واعتبره الراحل وسام شرف لإسهامه في نصرة الشعب الكردي والدفاع عن قضيته.
وفي اليوم التالي سارعت القوات الأمنية إلى القاء القبض على البارزين من الشيوعيين المعروفين لديهم ومن ضمنهم فقيدنا الراحل وأرسل مخفورا إلى أمن الحلة حيث تعرض للتعذيب الشديد لتقديم اعترافات عن المنظمة وزملائه المشاركين في لصق المنشورات إلا أنه صمد صمود الابطال ولم يفش أسرار الحزب، وبعد فترة أطلق سراحه بكفالة بعد وساطات مؤثرة.
وعند قيام انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963، علمت المنظمات الحزبية بحدوث الانقلاب وتبعاً للتعليمات الصادرة لها بتنفيذ خطة الطوارئ خرجت المظاهرات الشعبية المنددة بالانقلاب وشملت المظاهرات معظم المدن العراقية ومنها مدينة المحاويل التي كانت قلب الحركة الوطنية، وقادت التظاهرة الكوادر الحزبية بمشاركة كبيرة من أبناء الشعب من الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وكان الراحل في صلب التظاهرات ومن (المهاويل) الذين ألهبوا مشاعر الناس، وتمكنت القوى الأمنية من تفريق المظاهرة وإلقاء القبض على بعض المشاركين فيها، وهرب آخرون، ولاحقت القوى الأمنية والحرس القومي الشيوعيين وألقت القبض على كثير منهم فيما أستطاع البعض الإفلات والاختباء.
اعتقل الفقيد صبيحة يوم 10 شباط 1963 من قبل الحرس القومي في المحاويل وأرسل مخفورا إلى مقر الحرس القومي في الحلة، وتم نقله إلى سجن الحلة ومكث فيه تسعة أشهر وأطلق سراحه بكفالة بعد انقلاب عبد السلام عارف في 18تشرين الثاني 1963.
واعتقل عدة مرات خلال فترة حكم الأخوين عارف لأيام وأسابيع إثر كل نشاط يقوم به الحزب الشيوعي العراقي.
ثم أسهم في ايصال الشيوعيين إلى الأهوار في مرحلة الكفاح المسلح، وتمكن من نقل العشرات منهم وخصوصاً من الهاربين من سجن الحلة عام 1967، منهم مجموعة من أبناء الموصل الذين أوصلهم إلى المحطة المتقدمة في مدينة النعمانية.
وقد اختفى الشاعر الكبير مظفر النواب في قرية (الصباغية) في المحاويل عدة أيام تمهيداً لإيصاله إلى مناطق الأهوار، وكان الفقيد الراحل قد هيأ له مكاناً مناسبا للاختفاء في دار أحد الرفاق وهيأ الوسائل اللازمة لنقله منها إلى مدينة النعمانية لوجود مركز لاستقبال المقاتلين هناك.
بعد فشل الحركة وإلقاء القبض على المنتمين اليها أستطاع الفقيد الاختفاء عن أنظار الشرطة مبتعداً عن مدينته المحاويل، وبعد انقلاب 17 تموز 1968 ألقي القبض عليه من قبل القوى الأمنية وأودع السجن، وأستمر معتقلا لمدة تزيد على أحد عشر شهراً، قضاها متنقلاً بين سجون بغداد في الفضل والصدرية والحيدرخانة، وبعد الحملة الكبيرة التي نظمها الحزب الشيوعي لإطلاق سراح المعتقلين من الشيوعيين أطلق سراحه من السجن، ولجأ إلى الاختفاء عن عيون السلطة أعوام 1970-1971-1972.
وكان الفقيد الراحل قد أحيل إلى محاكم أمن الدولة عن القضايا السابقة التي أوقف بسببها، وبعد صدور القرار القاضي بالعفو عن السجناء السياسيين والغاء التعقيبات القانونية والدعاوى المحالين بها إلى المحاكم شمله القانون المذكور وأغلقت الدعاوى السابقة، وعاد لعمله الطبيعي.
وبعد سقوط النظام في 9-4-2003 التحق الفقيد بالحزب، وعمل في منظمة المحاويل، ثم انتخب عضوا في محلية بابل لعدة دورات، كما تم انتخابه مندوبا في مؤتمرات الحزب السابع والثامن والتاسع والعاشر، وظل يمارس نشاطه الحزبي حتى رحيله بتاريخ 26-12-2020.
والفقيد من الشعراء الذين تركوا أثرا في مسيرة الشعر الشعبي في بابل، وقد أصدر ديوانه الأول (طشين شوف) الذي جمع فيه ما وجد من قصائده التي فقد أكثرها لاضطراره بسبب موقفه السياسي وبحكم عمله الوظيفي إلى التنقل بين مختلف المحافظات العراقية، والشاعر الملتزم في عهود التسلط لا يستطيع الاحتفاظ بما يكتب مدونا وليس له إلا أن يحفظ شعره خشية أن يقع بأيدي غير أمينة تودي به إلى غياهب السجون لذلك فان أكثر قصائد الديوان هي من محفوظاته وليس من مدوناته أو مما أحتفظ به زملاؤه ومحبوه.
عرف الشاعر عبد الرزاق كميل باسمه الشعري "أبو قمر" وأشتهر به منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، وشارك فيما شارك فيه أبناء جيله من أحداث عاصفة في تلك الفترة متأثرا بالشارع السياسي وتوجهاته الوطنية التي فرضت وجودها على ما كتب من شعر.
وشاعرنا عرف بمفرداته المميزة التي لا تزال تحمل روح الشعر الستيني ومدرسته الأثيرة التي عرفت بمفرداتها النابعة من رؤى وطنية وشعبية غابت عن الشعر في الوقت الحاضر بعد أن لبس الشعر أردية تمثل الرؤى والأفكار القديمة التي عادت بالفكر الشعبي إلى وراء.
ورغم محدودية القصائد وقلتها إلا أننا لا نعدم ومضات أبرزت القدرات البلاغية والفنية للشاعر، فهو يمتلك ذائقة معاصرة تقتنص جميل المعاني ورائع المفردات، ولديه صور تفرد وعرف بها ولم يسبقه إليها شاعر.
لا أريد الإطالة وأكتفي بما قدمت ولعل القارئ سيتلمس ما في قصائده من جميل ورائع، وفي أفكاره من رؤى تنزع للخير والحب والجمال، ولعل النماذج المختارة تمثل بعضا مما أراه في شاعريته وإبداعه.
جرح من الشمس عتني...
وجرح بيّه يدليني شتاني
وعثر بيّه الجرح غناوه حديثه...
وشفت بيه الجرح..صاير جسر بين الجفن والعين
وقصيدة نجتزئ منها:
يالمبحر بفكرك زود...ولمدك أصير حروف
هاك أخذ گلبي ربابه أودگ طبل ودفوف
شتلت الگلب بدروبك عيون تشوف
ولون وازاك حچي المندعه والحچي المحيوف
ها شوف المبطن وين والملفوف
ها شوف
آنه النذرت العمر من زغري الفد راي
وتحمليت العطش شوگ النهر للماي
وألما تلفحه الشمس لتظن يدور أفياي
أخذوني چلمة محب ما ريد جنة عاد
واللي يخون الملح يحرم عليه الزاد