مساء يوم الإثنين 21 تشرين الأول أكتوبر 2024 عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، توقف قلب الكاتب والإعلامي العراقي يحيى علوان عن الخفقان، بعد صراع مديد مع المرض، كان يناوش فيه الموت ويتحايل عليه عشرات المرات، لكنه للأسف، دخل هذه المرة رحلة اللاعودة، فترك لنا ألم غيابه ووحشة الإبداع
برحيله المفاجئ والمحزن كأن به ينشد... بلا وطني لاقيتك أيها الموت بعد يأس!
للكاتب يحيى علوان الذي كان يقيم في برلين منذ عقود، العديد من المؤلفات وله مؤلفات أربعة اثنين منها في طريقها للنشر... في العام 2018، صدر كتابه الوثائقي الروائي الموسوم "مطارد بين... والحدود" كتب في مستهله جملتين لهما مغزى عميق يفسر مشاعره الدفينة.
[للوطن فُطِرنا على حبه... هويتنا غيره، لكننا لم نُفطم عن عشقه، رغم ما حل به من نزالات!] الأخرى [وإلى كل الشهداء والضحايا، رحلوا نيابة عنا...! ولكل الذين يحملون مشاعل التنوير نحو انعتاق البشرية...!]
في كل منتوجه الإبداعي، الروائي والإعلامي: لم تكن نصوص يحيى علوان مجرد كلمات، بل كانت نبضات روح، تحمل مشاعر وآلاما وآمالا. لقد جعل من القلم سلاحه، ومن الصحافة رسالة، يسعى دوما لتسليط الضوء على القضايا التي تهم المجتمعات العراقية، مدافعا عن الحق والعدالة بجرأة لا مثيل لها.
في عالم تتصارع فيه القيم والمبادئ، لم تكن السنوات الأخيرة للكاتب والصحفي يحيى علوان الذي عاش حياة مليئة بالتحديات والمعاناة. محاطة بالمرض والتعب الجسدي فحسب، بل كانت معركة يومية مع العوز والألم الذي تجاوز حدود الجسد ليغمر روحه بالفقد والحنين. الكلمات التي كان يكتبها يستمد منها قوته، رغم الظروف الصعبة التي عاشها. لم يكن يختبئ خلف أوجاعه، بل كان يتخذ من قلمه سلاحا، يسجل فيه آلام المجتمعات وينقل معاناة الفقراء والمهمشين. كان يرى في الفقر ليس مجرد حالة اقتصادية، بل معركة وجودية، وألما يحرق النفوس. كان يتحدث بصوت عال عن القضايا التي تهم الجميع، ويتألم لأجل الذين لم تسمع أصواتهم.
يحيى علوان الذي لم يكن مجرد قلم، بل كان صوتا حقيقيا للحق والحرية. لقد انخرط في العمل السياسي كيساري الهوى، مدافعا عن حقوق المظلومين وحق الشعوب في التعبير والكرامة والحياة الكريمة. عاش حياته متبنيا قضايا الإنسانية، وكانت كلماته سلاحه في مواجهة الظلم والاستبداد. لم يتردد في الوقوف إلى جانب المهمشين، معبرا عن آلامهم وآمالهم، معززا روح المقاومة في قلوب الذين يكافحون من أجل حريتهم وحقوقهم الأساسية. لم يكن يكتب من منطلقات شخصية، بل كان يحمل على عاتقه هموم شعبه، متمسكا بقيم العدالة والمساواة. لقد كان يؤمن أن للإنسان الحق في حياة كريمة، وأن صوت الحق لا يمكن أن يقمع، مهما كانت التحديات.
عاش يحيى علوان سنواته الأخيرة حالة عوز، محاطا بمعاناة لم تكن وحده يتحملها، بل كان صوتا للعديد من المبدعين العراقيين الذين عانوا في داخل وطنهم وخارجه من قسوة الظروف والمظالم. لقد كان رمزا للإبداع والنضال، لكنه لم يكن بمعزل عن معاناة الكثير ممن شاركوه حلم التغيير والحرية في ظل واقع مرير، انقضت عليه الأيام كالسكاكين، ولكن ذلك لم يمنعه من الكتابة، ولا من الاستمرار في الدفاع عن حقوق المظلومين ومن أجل الحرية والكرامة...
ورغم ظروفه الصعبة عازفا عن الأمل، إلا أنه لم يتوان عن مواجهة التحديات التي مر بها بجرأة وعزيمة، تماما، كما فعل العديد من المثقفين والفنانين والمبدعين العراقيين. إن رحيله وهو في الغربة بعيدا عن وطنه الذي أحب، مكسور الخاطر يعاني من الألم والعوز، هو دعوة للمطالبة بوضع حد للتحديات التي يمر بها الكثير من المبدعين العراقيين من فنانين وكتاب وإعلاميين ومفكرين. فالألم الذي عاناه لم يكن مجرد تجربة فردية، بل كان جزءا من معاناة جماعية، تثقل كاهل الثقافة والفن والإبداع في العراق. أيضا فرصة لتسليط الضوء على معاناة العديد من المبدعين العراقيين من العوز والإهمال الذي بسببه فقدوا في هذا العصر حياتهم.
الكاتب والصحافي يحيى علوان الذي عاش في ظل ظروف قاسية لا تطاق، وهي ظروف يعاني منها اليوم العديد من المثقفين وهم يضيئون دروب الإبداع والمعرفة. مما يقتضي على الدولة والجهات المعنية اتخاذ خطوات جدية لحل مشكلاتهم وتكريمهم. فالمبدع هو ثروة وطنية، ويجب أن توفر له الظروف المناسبة للعيش بكرامة ليعبر عن نفسه، ويسهم في بناء المجتمع. بمعنى آخر، نحتاج إلى سياسات واضحة تدعم حقوق المبدعين، وتضمن لهم حياة كريمة، وتوفر لهم فرص المشاركة الفاعلة في الشأن العام. إن الإبداع لا يزدهر في بيئة تعاني من القمع والظلم، بل يحتاج إلى مساحة من الحرية والدعم.
لقد شهد "العراق" معاناة الكثير من المبدعين الذين ضحوا بأحلامهم وأفكارهم، معانقين الألم بصبر وكرامة علوان واحدا منهم. كلماته كانت تتحدث عن قضايا الفقراء والمهمشين، مسلطا الضوء على المظالم التي تخيم على الوطن، ساعيا لجعل صوتهم مسموعا في خضم الصراعات... اليوم، عندما نودع هذا الرجل العفيف، نتذكر جميع أولئك الذين عانوا مثله، ونشعر بأن رحيله هو فقدان لنا جميعا. لكن إرثه لن يختفي، بل سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة.
وداعا، أيها العزيز، ستظل في قلوبنا، وسنكمل الطريق الذي سلكته، مطالبين بالتغيير وداعمين لكل مبدع يسعى لتحقيق حلمه.