اخر الاخبار

في كتاب صدر حديثا للمؤرخة البريطانية من جامعة كيمبردج أنا نيما (دار بيكادور  ٢٠٢١) بعنوان “الطوباويون” تناولت ستة محاولات تاريخية  لبناء مجتمع مثالي يستجيب للطموحات والنوازع الإنسانية نحو مجتمع عادل وسعيد، ولكن لم تتناول الاتجاهات التي سادت في القرن التاسع عشر. وفيه تعرف اليوتوبيا على انها احد اشكال الحلم الاجتماعي  لاختراع نموذج مثالي يتعايش مع ذاته ويعتمد القيم الأخلاقية سواء من منظور ديني او فلسفي، يتحقق ليس عبر الطرق التقليدية كالعصيان المدني او الانتخابات او الانتفاضة بل عبر طرق بديلة قوامها الموعظة الحسنة وقوة المثال وسيطرة  الاخلاق الحميدة بل وبعضها سبق نهوض الحركات العمالية وصعود البروليتاريا كقوة اجتماعية وسياسيه لها تنظيمها المستقل الذي يدافع عن مصالحها. 

فعلى سبيل المثال في القرن السادس عشر خطط  البروتستانت لإقامة نظام ديني اجتماعي بديل عن الجمود العقائدي للكنيسة الكاثوليكية في أوروبا آنذاك، ويتماهى مع تطلعاتهم الروحية والتطبيق المتزمت لتعاليم وشعائر العهد الجديد كرد فعل على المذابح التي ارتكبت بحقهم بسبب معارضتهم التفسير والشعائر، ومنها بيع صكوك الغفران للفقراء لضمان الدخول الى الجنة حيث  كانت الأموال تذهب مباشرة لكبار رجال الكنيسة التي ادّعت ملكيتها لمفاتيح الجنة حصرًا. وفي 31 تشرين الأول 1517  قام أستاذ علم اللاهوت مارتن لوثر باصدار وثيقة يرفض فيها تصرفات الكنيسة ويطلب من البابا أن تمتنع الكنيسة عن  الاستحواذ على أموال الفقراء والمشردين. وفي 1618 وقعت حرب طائفية دينية دموية في أوروبا راح ضحيتها أكثر من 8 ملايين قتيل، وعرفت في ما بعد بحرب الثلاثين عاما،  اعقبتها سنوات من المجاعة والأوبئة. ولكن دخول أوروبا عصر التنوير تزامن مع  الثورة الفرنسية (1789) للتخلص من سلطة رجال الدين ومشاركة الكنيسة في الحكم واتحادها مع الأرستقراطية الملكية حيث خرج الشعب  الفرنسي ثائرا  مطالبا  بالديمقراطية كخيار وحيد لتبادل السلطة وإبعاد الدين عن الدولة.

التجربة الأخرى هي تلك التي حدثت في أمريكا بعد الثورة على الاحتلال البريطاني بين عامي 1765 و1783 والتي تكونت بعدها عشرات المجتمعات الصغيرة تحت شعارات دينية وعلمانية  لبناء مجتمع العدالة والرفاه الإنساني.

وجاء التحول الحقيقي في القرن التاسع عشر عند اتساع الثورة الصناعية التي أدخلت المجتمعات الاوربية في مرحلة انتقالية الى النمط الرأسمالي على بقايا النظام الاقطاعي وبروز نقيض الطبقة البرجوازية وهي البروليتاريا التي بدأت تنتظم في اتحادات ونقابات وجمعيات وأحزاب سياسية كما انتشرت أفكار الحرية الليبرالية. ومن الجدير بالذكر ان العالم العربي والإسلامي كان آنذاك يرضخ تحت قيود النظام الاقطاعي العثماني الإسلامي. اما العراق فقد فسم الى ثلاث ولايات مهمتها الرئيسية هي جمع الضرائب والتجنيد الاجباري ليكونوا وقود لحرب للماكنة العسكرية العثمانية وكان العراقيون يعيشون حالة بائسة من الجوع والفقر والأوبئة والجهل والتخلف. 

وقد كتب المؤرخ البريطاني جورج هوارد كول (1889-1959)، الذي كان منظرا سياسيا واقتصاديا واشتراكيا ليبراليا وعضوا في الجمعية الفابية البريطانية واحد دعاة إقامة التعاونياتن   كتب حول تاريخ الفكر الاشتراكي. وقد تأسست الجمعية الفابية في 1884 من قبل عدد من المفكرين الذين جذبتهم  فكرة الاشتراكية والعدالة، ونشطوا من اجل إقامة نموذج بريطاني لكن بالضد من المفاهيم الماركسية حول الاشتراكية، بل الإصلاح والتغيير عبر «الحكمة والموعظة الحسنة”. وكانت آليتهم المفضلة نشر الكتيبات والكراريس المبسطة  كي تتغلغل في عقول المواطنين وتكسبهم طوعيا. ومن قادتها المشهورين سيدني ويب وزوجته بياتريس، وهما علمان في الفكر الاشتراكي الاجتماعي والإنساني والكاتب المسرحي جورج برنارد شو.   في 1920 انضمت “الجمعية الفابية” إلى حزب العمال الذي كانت الحركة النقابية قد أسسته، وأصبحت بمثابة الهيئة الأيديولوجية له.

وكان اشهر ما كتب كول هو “تاريخ الفكر الاشتراكي” في أربعة مجلدات نشر في 1952  حيث كرس المجلد الأول الى رواد الفكر الاشتراكي وهو متوفر باللغة العربية. وكان البدء محاولة مناقشة التباس المفاهيم حول ما المقصود بالاشتراكية وأيضا عدم الوضوح حول اول  من استخدم كلمة “الاشتراكي”. لكن كما يبدو ظهرت لأول مرة في عام 1803 في مطبوع ايطالي ، ثم ظهرت في نشرة باسم “التعاون” تعود للسياسي البريطاني روبرت أوين قي عام 1827 وبعد عدة سنوات في مطبوع فرنسي (1832) في جريدة لاحقا أصبحت لسان حال الحركة السيمونية.

 وكان روبرت أوين (1771-1885) مصلحا اجتماعيا بريطانيا من مقاطعة ويلز وضع نموذجة الاشتراكي “الاشتراكية المثالية “ التي خلاصتها ان البيئة  البيولوجية والاجتماعية هي الأساس في تشكيل شخصية وسلوك الانسان،  ولذا لا يستطيع التحكم بذاته. وكان متأثرا بالطبيب وعالم الاحياء الفرنسي جان بابتيست لإمارك ( 1744- 1829) الذي كان من دعاة التطور البايولوجي ونظرية توارث الخصائص المكتسبة، وأيضا بعالم التاريخ الطبيعي البريطاني تشارلز داروين (1809- 1882) صاحب نظرية الانتخاب الطبيعي المشهورة. ويرى أوين أن الإصلاح يبدأ من الذات عبر التعليم والعمل في ورش تعاونية صغيرة لخلق بيئة اقتصادية تلغي الربحية والمنافسة والنقود.

وهناك شخصيتان مهمتان في فرنسا هما فورييه وسان سيمون ( ناولنهما في مقالة سابقة حول تاريخ الفكر الاشتراكي في فرنسا نشرت في طريق الشعب مؤخرا ). وقد انتشر مصطلح الاشتراكية في أوروبا وانتقل الى أمريكا. ويقصد بالاشتراكية في معظم الأحيان النظم الاجتماعية التي تدفع الى الصدارة حقوق الانسان والمساواة والعدالة الاجتماعية كاطار واسع ولكن اختلفت كثيرا في التفاصيل والجزئيات.

ويمكن تقسيم الاشتراكيين الى ثلاثة اتجاهات رئيسية الأول هو تيار الاشتراكيين الذين اطلق عليهم الاقتصادي جيروم بلانكي (1841) لقب “الاشتراكيين الطوباويين” وضم أوين في بريطانيا وفورييه وسان سيمون في فرنسا واستقطب العديد من المفكرين آنذاك ومنهم فيكتور هيجو ( 1802-1885) الذي يعتبر ابرز كتاب المرحلة الرومانسية في فرنسا، ومن  اعماله الروائية (البؤساء) و(أحدب نوتردام). وكانت بينهم اختلافات عميقة حول آليات تحقيق الحلم الاشتراكي.  

وقد تناول انجلز أطروحاتهم  الفكرية في ثلاثة مقالات صدرت تحت عنوان (الاشتراكية  الطوباوية والاشتراكية العلمية) في 1880 حيث يشرح فيه ان هذه “الاشتراكيات” لا تعدو أن تكون إعادة انتاج الرأسمالية في الواقع، والتي تناولها بالنقد أيضا (البيان الشيوعي) الذي صدر في عام في 1848 والذي اكد على ان الاشتراكية ليست محض خيال بل ممكنة التحقيق. ومع ذلك كانت الأفكار الاشتراكية الطوباوية أحد الروافد الفكرية للمنظومة الفكرية الماركسية.

 الاتجاه الثاني وقد ساد في أوساط التنظيمات الفوضوية.أما الثالث فهو الاشتراكية التي طرحتها الماركسية كمرحلة سابقة أولى لبناء الشيوعية ويتم تحقيقها عبر قيادة الصراع الطبقي للإطاحة بسلطة البرجوازية وتحويل الاقتصاد والمجتمع اشتراكيا.

ونلاحظ اليوم استمرار الالتباس في ما تعني الاشتراكية حيث يظهر المعلقون السياسيون    او الاقتصاديون على الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، واصفين الحكومات الجمهورية في العراق بعد  1958 بالاشتراكية، وبشكل خاص تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي البائسة في الستينيات، او التوسع في تسلط الدولة الشمولي في السبعينات. ولكن المقصود الحقيقي هو تدخل الدولة المفرط في إدارة القطاعات النفطية الصناعية والزراعية  بينما يطالب من هم من انصار الليبرالية الجديدة المتوحشة باطلاق العنان للخصخصة وبيع أصول مؤسسات الدولة بالمزاد الى رجال الاعمال والتجار. وهناك أيضا بعض ممن تستهدف مغالطاتهم تبشيع الأفكار الاشتراكية والماركسية بشكل خاص.  

عرض مقالات: