اخر الاخبار

من منا لا يتذكر (فراش المدرسة) الابتدائية في أول محطات الدراسة الأولية.

ونحن أطفال صغار نمسك بأيدي أمهاتنا وهن يذهبن بنا إلى تلك البناية المقدسة (المدرسة) تلك التي كنا نحلم بدخولها ونحن نرى جيراننا وأخوتنا الكبار يذهبون إليها كل صباح.

كانت المدارس مختلطة بنينا وبنات، كان ذلك عام ١٩٦٢ ونحن في بيوتنا نسمع النشيد الوطني يصدح من تلك البناية كل صباح فبقي الحلم للوصول إلى ساحتها والوقوف مع تلك المجاميع من الطلبة لنواصل المشوار في التربية والتعليم من كوكبة المعلمين أولئك الجنود المجهولين الذين نذروا حياتهم من أجل أن يبنوا أجيالا علمية رصينة.

وحين وصلنا لذلك الباب المفتوح وجدنا العم جمعة الفراش الذي أستقبل والدتي بكل محبة وطيبة ونقاء وهو يؤدي التحية اليها بكل انسانية وحنان، وحال ما حلت أصابعها من يدي استلمني العم جمعة وهو مبتسم مردداً (هلا بالبطل الحلو الحباب) أخذني جمعة وعيني على أمي وهي تومئ لي بيدها وهي تقول (آني واكفتلك بلباب)، سار بي العم جمعة إلى أروقة المدرسة وأجلسني على تلك الكرسي الخشبي (الرحلة) وودعني وهو مبتسم ويده على رأسي ويقول لي انت راح تصير طبيب مبين عليك يا بطل، طمأنني وذهب ليودع والدتي بالعودة إلى البيت.

كان العم جمعة لولب المدرسة رجلا كبيرا طويل القامة بدين الجسم أحمر الوجه مصلاوي الولادة ملابسه نظيفة بنطلون وجاكيت طويل يضع وردة حمراء في جيب صدر جاكيته له أربعة أبناء في المدرسة (سعد / رعد / وعد / معد)، سعد كان معي في الصف الاول ثم جمعني معه في رحلة واحدة وقال لي هذا أخوك سعد وآني مثل أبوك يا حبيبي، اطمأنت جدا من وجودي وانا أفارق أهلي لأول مرة في حياتي.

جمعة الفراش هذا الإنسان الذي تتجسد فيه كل فضائل الكون محب للطلاب يتعامل معهم كأولاد له يأخذنا إلى الحمامات ثم يعود بنا إلى الصف كان جيبه مملوءا بالجكليت يوزعه علينا نحن طلاب الصف الاول.

جمعة يحبه المدير ويحترمه جدا ويناديه (جمعة أحمر علمنه) وهو مبتسم يرد عليه (بي منجل وجاكوج) ونحن نسمع ولا نعرف هذا الكلام وتسير بنا الأيام والعم جمعة قريب من كل الطلاب والمدير أيضا يتعامل مع الطلبة بعلمية فائقة وأبوية كبيرة. وفي الصف الثاني حدثت النكسة لكل الطلبة في المدرسة بعد ان عرفنا أن انقلابا حدث في البلاد في شباط ١٩٦٣ وقد اختفى العم جمعة وخمسة من المعلمين ومدير المدرسة وبقينا بدون تعليم لفترة أكثر من شهر ولم يعود المدير والمعلمون ولا حتى العم جمعة الفراش وسألت سعد ابنه عنه فبكى وقال إن أباه قد أخذوه ولا يعرفون مكانه وبكيت معه على العم جمعة بكاء طفولياً بريئاً على إنسان جريمة أن يتعرض للأذى مثله. واختلت الأمور بعد ذاك اليوم الأسود الذي أختفى فيه أطيب الناس من المدير إلى الهيئة التعليمة ثم عامل الخدمة وأستبدل الكادر بغيره وكان المعلم الجديد يضع المسدس في حزامه وهو يعلمنا الحروف والأرقام وكنا نرتعد من ذلك المنظر المشين ونخاف منه وحتى أسلوب التعليم اختل كثيرا وسادت الفوضى في المدارس إلى نهاية عام ١٩٦٣، ظلت أحوال البلاد غير مستقرة من انقلاب لانقلاب و عيوننا مبصرة نحو الأمل ونتأمل عسى أن يعود العم جمعة والمدير ومن معهم من المعلمين الطيبين إلى أماكنهم الطبيعية لكنهم رحلوا جميعا إلى السماء بجريمة أقترفها الفاشست الجبناء راكبي القطار الأمريكي سيء الصيت.