اخر الاخبار

مثل تطور الفكر الاشتراكي في فرنسا إضافة نوعية للماركسية ما بعد الأممية الأولى وان لم تبرز أسماء لامعة كما هو في المانيا وروسيا على سبيل المثال بسبب التراث الاشتراكي والثوري الغني في فرنسا والذي استمد جذوره من الثورة الفرنسية (1789) والاتجاهات السياسية المتطرفة مثل اليعاقبة الذين شكلوا الفوة الأكبر دورا في قيام الثورة الفرنسية لأنهاء حكم الملك لويس السادس عش ، وإنشاء جمهورية فرنسية شعبية وأيضا اتباع لوي اوجست بلانكي(1881-1805) وهو من الذين اعتنقوا الفكر الاشتراكي وقضى نصف حياته في السجون وانصار فرانسوا بابوف (1797-1760) الذي كان محرضا سياسيا ولديه صحيفة عرفت باسم «منبر الشعب» وبدوره في بتطوير التكتيكات التي اتبعتها الحركات السياسية الاشتراكيةآنذاك ودعواته الى الثورة الشعبية.

ومن التراث الفرنسي المهم أيضا الاتجاهات الفكرية الاشتراكية التي يطلق عليها في الادب الماركسي الاشتراكية الطوباوية التي انتشرت في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، والتي اعتبرها انجلز في كتابة «الاشتراكية الطوباوية والعلم» – دار الفارابي نتاج وعي التناحرات الطبقية واعتبرهم لا يمثلون البروليتاريا بل رموزا للتنوير يطالبون بتحرير البشرية كلها وإقامة دولة رشيدة ومجتمع عادل. ومن هؤلاء الفرنسي شارل فورييه (1851-1771) الذي كان يدعو الى المشاركة الاختيارية في الانتاج وأن يتاح لكل شخص العمل حسب قابليته واحترام حرية المواطن الشخصية. فله الحق في تغيير نوع العمل بحرية لكن لم يطالب بإلغاء الملكية. وكان يأمل في تغيير العالم وتحويله إلى نظام اقتصادي عادل عن طريق المثال الصالح والوعظ والارشاد واقامة مجتمع مثالي يدار على شكل هيئة تعاونية بحيث يعيش أفرادها في بناء واحد ويختص كل منهم بعمل معين طبقا لاهتماماته الخاصة وهذا في رأيه سيؤدي إلى زيادة الإنتاج.

وكانت الشخصية البارزة الأخرى في تيار الاشتراكية الطوباوية هو الكونت كلود هنري دي سان سيمون وهو من جذور ارستقراطية اهتم بالفلسفة وخاصة الفيلسوف الفرنسي اوجست كونت (1798-1857). وطالب سيمون بمنع الدولة من التدخل في الحياة الاقتصادية. وقد شارك في الثورة الامريكية وتخلى بعدها عن لقبه الارستقراطي وعكف على تطوير أفكاره التي تضمنت رؤيته حول نظام الحكم المؤلف من قطاعات يشارك فيها مختصون وتكنوقراط وثلاثة مجالس تشريعية احدها مهمته الاختراعات. فالبديل الوحيد للنظام الاقطاعي السائد هو حكومة يقودها المختصون والمهندسون والعلماء الذين هم القادة الفعليون لتحقيق مجتمع عادل. وهاجر السيمونيون الى مصر في محاولة بناء مجتمعهم الخيالي على أساس بيان «اعلان المبادئ « الذي كتبه سان سيمون في 1817 وساهموا في اعمارها ، وكان مهندس قناة السويس من أتباعه.

ولعب توسع الحركة العمالية في فرنسا عقب تزايد ونمو المصانع دورا كبيرا في تطور اليسار. ففي 1825 كان نصف الشغيلة يعتمدون على الأجور كما ازدادت شركات النسيج بسبب تطور التكنولوجيا وتشكلت تعاونيات ونقابات وتزايدت الاحتجاجات الشعبية وانتشرت الأفكار الاشتراكية ضد تمركز الثروة والسلطة لدى البرجوازية حيث أصبحت بعد 1833 البديل الفكري الوحيد لواقع العنف والاضطهاد واستغلال المرأة فانتشرت الصحف والمكتبات والدعاية للفكر الاشتراكي.

ومن شخصيات تلك الفترة جولز كيسيدي (1845 - 1922) الذي ولد في باريس وكان صحفيا وسياسيا والذي كتب اليه ماركس والى بول لافارغ الذين وصفوا انفسهم حماة المبادئ الماركسية واتهمهم بالشعارات الثورية وكتب عبارته الشهيرة «وما هو مؤكد انني لست ماركسيا». وبعد العنف الذي اعقب كومونة باريس 1871 التي اقامت نظاما سياسيا يقوم على المساواة والحرية والعدالة. وفي الفترة القصيرة التي استمرت لمدة 72 يوما اتخذوا قرارات ثورية والتي اسقطها لاحقا تحالف البرجوازية الفرنسية والأوروبية وقتل فيها الالاف من الضحايا. واستطاع كيسيدي الهرب الى جينيف. وكان كيسيدي صديقا لبول لافارغ وكتبا سوية وثيقة المؤتمر الأول لحزب العمال الفرنسي في 1880 . وعارض عدد من أعضاء المؤتمر تقديم تنازلات الى الحكومة البرجوازية. وفي 1903 عقد المؤتمر التوحيدي، واعلن تشكيل الحزب الاشتراكي الفرنسي. وبعد اعلان الحرب العالمية الأولى غير كيسيدي موقفه السياسي واصبح وزيرا بلا وزارة في حكومة الوحدة الوطنية لغاية 1916 . نشر كيسيدي كتابا بجزئين يضم خطبه في البرلمان بعنوان «أربعة سنوات من الصراع الطبقي».

الشخصية الأخرى هي بول لا فارع (1911-1842) الذي تزوج لورا ابنة ماركس الثانية، وكان صحفيا وعالم اجتماع وناقدا ادبيا. ونشر كتابا بعنوان «الحق في الكسل» في 1880 واعتبر نفسه امميا قبل كل شيء. ولد لافارغ في كوبا وعاش معظم حياته في فرنسا حيث انضم الى الأممية الأولى التي أسسها ماركس وانجلز وتعاون مع جولز كيسيدي في قيادة حزب العمال الفرنسي والذي وضعه في موقف معارض للتيارات الفوضوية والبلانكية حيث كان مدافعا عن الفكر الماركسي ضد التيارات الإصلاحية. وشارك في التظاهرات والاعتصامات الجماهيرية في فرنسا. وعلى الرغم من كونه معتقلا انتخب الى البرلمان الفرنسي ممثلا عن مقاطعة ليل. وكانت له مراسلات مع ماركسيين مثل كاوتسكي

وكارل ليبكنخت وفلاديمير لينين. وقد توفى في عمر 69 مع زوجته في اتفاق انتحاري غير متوقع واثار ذلك غضبا في الأوساط الاشتراكية آنذاك.

ومن اعلام الفكر الاشتراكي أيضا جين جوريس (1914-1859) الذي كان احد مؤرخي الثورة الفرنسية الذي اعتمد علية ماركس كأحد المصادر في كتابه (الثامن عشر من برومير). وكان جمهوريا معتدلا في بداية حياته السياسية واصبح نائبا لمرات في البرلمان الفرنسي ومن ثم تحول الى الاشتراكية في نهاية 1880 الا انه استخدم الماركسية بانتقائية خاصة في التحليلات المرتبطة بالمادية التاريخية والذي حظى بانتقادات حادة من قبل اليسار في فترات الصراع الفكري الحاد. وكان جوريس متأثرا بأفكار الفيلسوف الألماني كانت والفرنسي روسو وأيضا بالمدرسة الاشتراكية الطوباوية لسان سيمون. وركز على الابعاد الأخلاقية للفكر الماركسي. فمثلا وصف الاشتراكية كرؤية لنزوع انساني نحو العدالة موجود طوال التاريخ الإنساني يمكن الوصول اليها عبر تغيرات أخلاقية وإنسانية تنمو تدريجيا كما لم يتفق مع مفهوم الصراع الطبقي وتطور المجتمعات الارتقائي. وكان جوريس ميالا الى المهادنة والمساومة وضد تصعيد الصراع والى وحدة على أساس القيم الأخلاقية الإنسانية الأخوية . وكان جوريس ضد مبدا الصراع الطبقي بل كان يؤمن ان التغيير والإصلاح الاجتماعي ممكن بالعطاء الخيري للطبقات الغنية ويمكن الجمع بين الثورة والتطور وان الممارسة يجب ان تنبع من وحدة النشاط السياسي والتربوي والأخلاقي. اما صعود الإنسانية الى الأعلى فهو حصيلة نراكم القيم والمفاهيم الروحية والمجتمعية.

وقد اصبح جوريس زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي بعد عقد المؤتمر التوحيدي في 1903 ممثلا للتيار الاشتراكي الديمقراطي في فرنسا، كما كان له دور في تحقيق الاتفاق مع التيارات الاشتراكية الراديكالية لتشريع قانون 1905 لفصل الكنيسة عن الدولة. وانشأ في 1904 جريدة اللومانيتيه، والتي كانت لسان حال الفكر الاشتراكي في فرنسا. وقد تم دمج التيارين بقيادة جوريس وكيسيدي في مؤتمر توحيدي في اذار 1905، وكان بقيادة جوريس ويعرف الحزب الاشتراكي الموحد ،وقطع تعاونه مع التيارات الراديكالية. وقد تجمع التيار الاشتراكي ليشكل القسم الفرنسي في الأممية الثانية.

في 31 تموز 1914 اغتيل جوريس وهو في طريقه الى كافيه وسط باريس في شارع مونمارتر على يد شاب فرنسي يميني.

عرض مقالات: