في ربيع عام 1845 كتب ماركس لنفسه، خلال إقامته في بروكسل، ثلاث صفحات ضمت أحد عشر أطروحة تتعلق بفيورباخ. ولم تر هذه الأطروحات النور إلا بعد 43 عاما عندما وجدها انجلز ونشرها كملحق لمجموعة من الكتابات التي حررها بعد وفاة ماركس.
حقيقة الأمر إننا لا نعرف الكثير عن غاية ماركس في كتابة هذه الأطروحات. هل كانت جزءا من عادته لوضع تكثيف فكري أو خطوط عامة لأفكار ينوي إعادة صياغتها أو الغوص في أعماقها؟ هل قام بلصقها على الحائط لتكون أمامه دائما؟ أم كانت طريقة جديدة في التفكير في المشكلة التي حملتها كتاباتهما السابقة، وأعني ما ذكرته سابقا في مقال (حالة الطبقة العاملة في إنكلترا) في اعتبارهما الطبقة العاملة «قلب» الثورة أما «رأس» الثورة فهو خاص بالفلاسفة أو بالنخبة.
بعد سنوات عديدة كتب إنجلز ما يلي: «عندما التقينا، في ربيع عام 1845، مرة أخرى في بروكسل، كان ماركس قد طور بالفعل مفهومه المادي عن التاريخ ... ان هذا الاكتشاف، الذي أحدث ثورة في علم التاريخ، هو في الأساس، عمل ماركس - ويعود جزء صغير جدا منه لي - ... ذا أهمية فورية للحركة العمالية ...».
سأسعى هنا الى تفسير ما كتبه انجلز، لكنني سأخوض مغامرة ربما سيرفضها البعض، وهي إعادة ترتيب هذه الأطروحات، ودمجها في أربع مجموعات. بالطبع كل منا حر في قراءتها حسب الترتيب المنشور، ولكن ما الضرر من إعادة ترتيبها لتسهيل فهمها؟
ولكن أولا، دعونا نثبت ما يلي: في (أطروحات عن فيورباخ) يكشف ماركس النقص الجذري الذي يشوب على السواء مادية فيورباخ وكل المادية السابقة لها، أي طابعها التأملي الجامد، وعدم فهم أهمية النشاط الثوري الذي يقوم به الإنسان. كما انه يشير الى دور الممارسة الثورية الحاسم في معرفة العالم وتحويله. بيد ان ذلك لا يعني إطلاقا التفسير الساذج الذي نسمعه أحيانا والداعي الى الكف عن التنظير ولنبدأ العمل. ان النشاط الثوري لا يمكن ان يثمر شيئا بدون أساس نظري له، وبالمقابل فأن النظرية تغدو أكثر اتقانا بالممارسة.
كما ذكرت آنفا سأقسم الأطروحات الى أربع مجموعات. تضم الأولى الأطروحات 4، 6، 7. وتضم الثانية الأطروحات 1، 3، 5. والثالثة الأطروحتان 2 و8. أما الرابعة فتضم الأطروحات 9، 10، 11. وأود التنبيه أيضا الى اضطراري، أحيانا، الى تصحيح الترجمة العربية للأطروحات بعد مطابقتها مع الألمانية والإنجليزية.
المجموعة الأولى: يشرح ماركس منهج فيورباخ وينتقد نزعته الإنسانية اللاتاريخية
الأطروحة الرابعة: «ان فيورباخ ينطلق من واقع ان الدين يبعد الإنسان عن نفسه، ويشطر العالم الى عالم ديني موهوم وعالم واقعي. وينحصر عمله في جر العالم الديني الى قاعدته الأرضية. وهو لا يرى انه متى انتهى هذا العمل، يبقى الشيء الرئيسي غير منجز. الواقع ان القاعدة الأرضية تفصل نفسها عن نفسها وتنقل نفسها الى السحاب بوصفها ملكوتا مستقلا لا يمكن تفسيره إلا بالنزاعات والتناقضات الداخلية الملازمة لهذه القاعدة الأرضية. يجب إذن، أولا، فهم هذه [القاعدة الأرضية] في تناقضها، وبعد ذلك يجب تعديلها بشكل ثوري عن طريق إزالة هذا التناقض. وعليه، يجب انتقاد العائلة الأرضية نفسها نظريا وتحويلها ثوريا بشكل عملي».
الأطروحة السادسة: «ان فيورباخ يذيب الجوهر الديني في الجوهر الإنساني. لكن الجوهر الإنساني ليس تجريدا ملازما للفرد المنعزل. فهو في حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية كافة.
ان فيورباخ الذي لا ينتقد هذا الجوهر الحقيقي مضطر إذن الى:
-1 ان يتجرد عن سير التاريخ وان يعتبر الشعور الديني بمثابة عقل في ذاته، مفترضا وجود فرد إنساني مجرد، منعزل؛
-2 ان يعتبر، بالتالي، الجوهر الإنساني فقط بوصفه “جنسا”، تعميما داخليا غبيا، يربط كثرة من الأفراد بعرى طبيعية بحتة».
الأطروحة السابعة: «ونتيجة لذلك لا يرى فيورباخ أن “الشعور الديني” هو في حد ذاته نتاج اجتماعي، وأن الفرد المجرد الذي يحلله ينتمي، في الحقيقة، إلى شكل معين من المجتمع».
في الأطروحة الرابعة نجد ان ماركس يقول ان فيورباخ حتى لو كان محقا في اعتباره أن الدين هو “اغتراب عن النفس” للإنسانية، فهو يستحق النقد لأنه رأى وظيفته على أنها مجرد إيقاظ الناس على فكرة أن الله قد أُخترع من قبل الناس، وليس العكس. يرى ماركس أن هذا غير كافٍ ويجادل بأن ظروفا تاريخية محددة (الأشكال المتغيرة للعائلات، على سبيل المثال) التي أدت إلى ظهور الأفكار الدينية هي التي يتوجب دراستها «نظريا»، ومن ثم «تحويلها ثوريا بشكل عملي» أي، بالممارسة.
وفي الأطروحة السادسة، يتفق ماركس مع فيورباخ حول إذابة «الجوهر الديني في الجوهر الإنساني»، لكنه يتساءل بعد ذلك، ما هو هذا «الجوهر الإنساني؟» هل هو شيء يربط «بعرى طبيعة بحتة» كل «الأفراد» في العالم بنقطة واحدة هلامية، غير متبلورة؟
يجيب ماركس على هذا التساؤل: كلا، «إنه في حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية كافة». إليكم بعض الأمثلة على هذا «المجموع»: السيد والعبد، العامل والرئيس، المُستعمِر والمُستعمَر، وغيرها الكثير على أساس العرق، والجنس، والنشاط الجنسي، والهوية القومية، وما إلى ذلك. ولا ننسى أن كلها عرضة للتغير مع الزمن.
بمعنى ان فيورباخ يأخذ الأمر ببساطة، دون أي إشارة الى وضع الأفراد الاجتماعي المحدد، لينسب إليهم «الجوهر» الذي من المفترض أن يوحدهم، وهو الحب.
يختلف ماركس بشدة مع هذا الطرح لدرجة أنه يكرر رأيه في الأطروحة السابعة. أي ان الأطروحة السابعة ليست سوى تكرار للأطروحة السادسة وجاءت فقط لتأكيد خلاف ماركس مع فيورباخ حول هذه النقطة. أليس كذلك؟