اخر الاخبار

إن شكل الدولة والدور المنوط بسلطتها يجسدان طريقة جديدة للاستبداد السياسي مؤقلمة مع “ظروف العصر” عبر التزاوج بين السلطة القمعية والسلطة المالية، وينشأ أشبه بالمجمع القمعي – المالي، لا تتحدد المواقع فيه على أساس القوة الاقتصادية، بل على أساس القرابة العائلية ومدى “الخدمة” التي يقدمها المنضوي لهذا المجتمع الى السلطة الحاكمة. ومن هنا يتعين فهم المؤسسة العسكرية كذلك وتحليلها في كل عمقها. إنه ليس مظهراً من مظاهر فرض إكراه الطبقة السائدة (أو الائتلاف الطبقي المهيمن) على بقية السكان (نموذج الدكتاتورية العسكرية التقليدية) بل وعلى الأصح إنه جزءاً من تشكل “العنف الشرعي” في سيرورة نشأة الفئات الحاكمة الحاملة لقيم العشيرة وتصوراتها.

تأثيرات الريوع النفطية خلال الفترة ما بعد 2003

على خلفية تعاظم الريوع النفطية نتيجة زيادة اسعار النفط الخام في السوق العالمية، تنامت سمات الطابع الريعي والخدماتي والتوزيعي للاقتصاد العراقي التي وظّفتها “النخبة” في توسيع شبكة “الزبائنية” الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة.

وقد استفادت بعض الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية بدرجات متفاوتة من هذه الطبيعة المزدوجة للاقتصاد العراقي: الريعية – الخدماتية، حيث ان القطاعين يلعبان دوراً محورياً في تكوين الناتج المحلي الاجمالي، اذ يشكلان تقريبا ثلاثة ارباع هذا الناتج (بلغ متوسط الفترة 2014 -2021 حوالي 73.4% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الثابتة) 

ما الذي حصل بالملموس؟

نمت في إطار ذلك فئة بيروقراطية متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة.

إن نقطة تكوين هذه الفئة حدثت جراء “حيازتها” لجهاز الدولة، أي انها “تملك” الدولة من خلال” حيازتها” لأجهزتها. وقد آلت إلى هذه الفئة، بفعل عملية نهب المال العام الشديدة، حصة كبيرة من ثمار “النمو الاقتصادي المرتفع جداً” الناجم بالاساس عن تعاظم الريوع النفطية. ويعني ذلك، بمصطلحات العلوم الاجتماعية، أن هذه الفئة قد امتلكت مصدراً اقتصادياً جديداً و”خاصاً” لقوتها  يعزّز قدرتها على تطوير الشبكات “الزبائنية.

كما تنامى دور البورجوازية الطفيلية التي باتت تضم شرائح “رجال الأعمال الجدد” الذين عملوا في مجالين رئيسيين هما:

- كمقاولين ثانويين للقطاع الحكومي وقبلها مع (مؤسسات اعمار العراق) التي انشأتها سلطة الاحتلال في حينه؛

- أو في مجال الوساطة في عقود التجارة الخارجية التي كانت “العمولة” تشكل نسبة كبيرة من قيمتها الإجمالية. 

ولإعطاء فكرة عن ريعية الفساد الأسود، ودورها في تشكيل هاتين الشريحتين، فقد قُدّرت ريعية الفساد نتيجة العمولات التي تدفعها الشركات الأوروبية في بعض بلدان العالم الثالث بما يتراوح بين 20 و50 في المائة من تكاليف التكوين الرأسمالي (المباني والمعدّات) فوق التكلفة الأصلية.  وخلال هذه الفترة نشأ التحالف غير “المرئي” بين “النخبة” البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما.

وتساهم هذه المعطيات في تفسير عزوف السلطات الحاكمة عن اجراء الإصلاحات المطلوبة. ويمكن القول إن الدخول الريعية تؤثر سلباً في عملية التحول إلى الديموقراطية، فاعتماد المالية العامة للدولة على الدخل الريعي أكثر من اعتمادها على الضرائب المستحصلة من المواطنين المكلفين، يضعف أثر مقولة “لا تمثيل نيابي للمواطنين من دون دفع ضرائب” كأحد دوافع التمثيل الديمقراطي. ومن هنا ليس مفارقة أن تترافق الريعية مع التسلطية، وأن تشكل أساس “أوتونوميا الدولة” أي استقلالها الذاتي عن المجتمع.

ومن جهة اخرى فإن ثمة ملاحظة مهمة لا بد من أبرازها هنا أيضا ونقصد بذلك التسييس المتعاظم لقطاعات من “البرجوازية الجديدة”. فنظرة سريعة للاحزاب الحاكمة والبرلمان تبيّن أنهما أصبحتا الساحة الأساسية لنشاط “الرأسماليين الجدد” السياسي. ويبدو أن “رجال الأعمال الجدد” هم احدى الفئات التي تشهد معدلا مرتفعا للتسييس في المجتمع العراقي الآن. حيث يلاحظ كيف ينشط هؤلاء في الالتحاق بالأحزاب المتنفذة والتعاون مع المليشيات المسلحة، وان بمستويات متفاوتة ترتبط بموقع الحزب المعني او الميليشيا المسلحة بصناعة القرار (بعدا أو اقترابا)، والاستحواذ على مناصب فيها، هذا بالإضافة بالطبع إلى خوض معارك شرسة من أجل انتزاع مقاعد في البرلمان العراقي. وعملية التسييس هذه لا تقتصر فقط على زيادة أعداد “رجال الأعمال” في مجلس النواب، ولكن على احتلالهم مناصب هامة فيه.

ربما يُطرح هنا سؤال قوامه: ما الجديد في إقبال “رجال الأعمال” على الاحزاب الحاكمة؟ ألم تكن تلك الاحزاب الحاكمة دائماً مفتوحة أمامهم؟ ألم يكن الحزب (او الائتلاف) الحاكم دائماً هو الجسر الذي يعبر عليه رجل الأعمال إلى “جنة” العلاقات الحميمة بالسلطة، وبالتالي تحقيق هدفه “الاسمى”: تعظيم الربح؟ الجديد في الموضوع في بلادنا هو أن بعض “رجال الأعمال الجدد” لا يدخلون الاحزاب المتنفذة اليوم من أجل تحقيق مصالح شخصية فحسب، بل إنهم وبسبب تعزز مواقعهم الاقتصادية فإنهم يريدون توظيف ذلك من اجل التأثير على السياسات العامة و تكييفها لمقتضيات نمو “رأسمالية” من طراز خاص، رأسمالية ريعية وطفيلية وفاسدة ونهّابة في الوقت ذاته.

ان النزعة السياسية المتنامية لـ “الرأسمالية الجديدة “ يتم حالياً احتواؤها في مشروع “رسملة” الدولة والمجتمع بشكل تدريجي وبما لا يتعارض مع المصالح الكبرى للبيروقراطية العليا، وهو المشروع “الإصلاحي”. هذا المشروع يتضمن تسوية بين البيروقراطية العليا والطفيلية والكومبرادور على اقتسام السلطة والنفوذ والثروة بما يرضي الجميع !!.

عرض مقالات: