صدرت صحيفة (طريق الشعب) علناً في ١٦ / أيلول / ١٩٧٣ كجريدة سياسية يومية لحزبنا الشيوعي العراقي، رافعة شعار (وطن حر وشعب سعيد ويا عمال العالم اتحدوا) وأصبحت منذ تأريخ صدورها العلني حتى توقفها في ٥ / ٤ / ٩ ٧ ١٩، أشهر صحيفة سياسية عراقية. وأكثر الصحف العراقية تطوراً من حيث التحرير والإخراج والأبواب، التي أدخلتها والصفحات المتخصصة التي ابتدعتها مثل صفحات حياة العمال، وحياة الفلاحين، وحياة الشعب، وصفحة الطلبة والشباب، وصفحة التعليم والمعلم ، وصفحة المرأة، وصفحة الأطفال، والصفحة الثقافية، وغيرها من الصفحات اليومية أو الأسبوعية المتخصصة، كما بادرت الصحيفة لإقامة أربع دورات صحفية مركزية في أعوام ( ٧٤، ٧٥، ٧٦، ٧٧ ) لرفد الصحيفة بالكوادر الشابة، وكان لي شرف الاشتراك بدورتين من هذه الدورات، هي الأولى والثالثة، كما ارتبطت بالصحيفة مكاتب صحفية في جميع محافظات العراق وأقضيته ونواحيه، وكانت هذه المكاتب الصحفية تمد الصحيفة بمئات المواد الصحفية كل عام .
لقد تحولت صحيفة (طريق الشعب) خلال هذه الفترة لمدرسة متميزة في الصحافة العراقية، وغدت الصحيفة الشعبية الأولى في العراق، ومن أهم الصحف التي يطالعها التقدميون العرب في الوطن العربي وخارجه، ولم تستطع صحافة السلطة رغم إمكانياتها الكبيرة أن تنافسها أو تصل لمستواها، حتى أن صدام حسين كان يعنف محرري صحيفة (الثورة) لعدم قدرتهم اللحاق ب (طريق الشعب)! وفي مقابلة لي نشرت قبل سنوات مع الرفيق الفقيد (عبد الرزاق الصافي) الذي كان رئيس تحرير الصحيفة حينها، قال حول هذه النقطة بالذات (موضوع تعنيف صدام حسين لمحرري الثورة)، قال إن ذلك حدث إثر صدور العدد الألف من طريق الشعب، وكان عدداً غنياً بمواده، جميلاً بتصميمه، إذ اجتمع مع محرري جريدة حزبهم، وسألهم: كم هو عدد محرري طريق الشعب؟ فأجابوا إنهم في حدود الثلاثين إلى أربعين محرراً، وعندها سألهم وكم عدد محرري الثورة؟ فقالوا ثلاثمئة!! كما عرفنا أن المسؤولين في جريدة الثورة كانوا يعقدون اجتماعا لمحرريهم عند صدور الأعداد الخاصة، التي تصدرها طريق الشعب! لتدارسها بأمل محاكاتها، وعرفنا أيضاً أن أحد المسؤولين البعثيين وصف محرري طريق الشعب، بأنهم فدائيون، بمعنى إنهم يتفانون في خدمة جريدتهم، ويبدعون في جعلها جريدة مقروءة، تشبع نهم القاريء للمعرفة والمتعة الفكرية، وهذا صحيح، وهو سبب تفوق صحافتنا على صحافتهم، لذلك تعرضت طريق الشعب ومحرروها، وطوال فترة صدورها العلني، وبصور ودرجات متفاوتة، لمختلف أساليب المنع والمضايقة والإرهاب، فمن الإنذارات المتواصلة والمباشرة المهددة بالغلق والإيقاف، التي كانت تصل الصحيفة من السلطة ووزارة إعلامها، وبحجج وأسباب مختلفة، إلى منع توزيعها، بل منع حملها وقراءتها في دوائر الدولة، إلى الضغط على المكتبات والباعة لعدم بيعها، إلى تهديدات المحررين، كما حدث لي مثلاً في تلك الفترة، عندما كنت مراسلاً للصحيفة في الناصرية، إذ تم تنبيهي بكتاب رسمي من قبل دائرتي وهي ( مديرية تربية ذي قار ) بالكف عن ممارسة عملي الصحفي، استنادا لقانون صادر عام ١٩٣٦، لا يجيز للموظف الحكومي الجمع بين وظيفتين ! وعندما اعترضت أن عملي الصحفي مجاني، وأني لا أتقاضى عنه أجراً، وهو عمل إبداعي يشبه كتابة الشعر والقصة، ولكن اعتراضي لم ينفع، وعوقبت بالإنذار، مما أضر براتبي وعلاواتي!
كما كانت السلطة تحرض الجهات التي تفضح الجريدة ممارساتها الجائرة ضد منتسبيها، لتقدم هذه الجهات شكواها للمحاكم ضد الصحيفة ومحرريها ومسؤوليها، ومثال على ذلك ما حدث لنا مع شركة (مساعد الصالح الكويتية) التي كانت مكلفة بمقاولة ثانوية لدى شركة (تكنبروم أكسبورت السوفيتية) التي تشيد المحطة الكهروحرارية في الناصرية، حيث طالبت الشركة الكويتية، التي كتبنا عن أوضاع عمالها المزرية، طالبت بغرامة مالية ضخمة، في دعواها ضد رئيس تحرير الصحيفة، على اعتبار إن ما كتب في طريق الشعب كان كذباً يمس بسمعتها! لكننا رددنا الدعوى القانونية بما نملك من أدلة دامغة وكتب رسمية صادرة من الشركة نفسها، تنص على فصل العمال، مما أبطل الدعوى وأحرج محامي الشركة!
كما لجأت السلطة لتكليف مرتزقتها لكتابة رسائل للجريدة، تتحدث عن مشاكل مفتعلة وحوادث غير حقيقية، لإحراج الصحيفة عند نشر هذه الرسائل، ولكن الصحيفة كانت واعية لهذا الأسلوب، إذ كانت تحيل مثل هذه الرسائل للمكاتب الصحفية في المحافظات للتأكد من صحتها قبل النشر.
بداية عام ١٩٧٨ تصاعدت حملة الاعتقالات ضد الشيوعيين وأصدقائهم، وهي لم تكن متوقفة حتى قبل هذا التأريخ، وتم التضييق أكثر على صحيفة طريق الشعب، وعلى توزيعها، حتى لم تعد توزع إلا في بغداد! وعندما عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعها الاعتيادي الكامل في ١٠ أذار ١٩٧٨، في ظروف بالغة التعقيد، حيث تفاقمت حملة البعث لتصفية منظمات الحزب في المدن والأرياف، وقد تناول الاجتماع بالنقد سياسة وممارسات البعث، وكان هذا النقد العلني بداية انعطاف حزبنا نحو المعارضة، وقد نشرت طريق الشعب نص التقرير الصادر عن الاجتماع ، فردت السلطة رداً سيئاً ومستفزاً على التقرير، على صفحات جريدة ( الراصد ) في ٥ / ٥ / ١٩٧٨، وبعدها تم تنفيذ حكم الإعدام بثلاثين مواطناً عسكرياً بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي، وتم اعتقال آلاف الشيوعيين الآخرين، مما اضطر ألوف الشيوعيين للخروج من الوطن أو الاختفاء وتغيير أماكن سكنهم، وتم إيقاف صحيفة الحزب والانتقال لعمل إعلامي جديد في الخارج، ثم في كردستان، ضمن الحركة الأنصارية .