اخر الاخبار

يعتبر عيد الصحافة الشيوعية مناسبة لاستذكار تجارب إعلامية فريدة ومحطات نضالية في مسيرة العمل الصحفي الشيوعي. تجربة تتجلى فيها الشجاعة والصمود أمام محاولات القمع والتهميش. عندما تم اعتقال والدي عام 1959، لم أكن قد وُلدت بعد، وكان السبب العثور على جريدة «اتحاد الشعب» - جريدة الحزب الشيوعي العراقي الرسمية - في مقر إحدى الجمعيات الفلاحية بناحية القاسم، محافظة بابل، حيث كان يعمل. ذلك الحدث شكّل البداية لتجربة عائلية مليئة بالتحديات والصمود. لم تثنِ تلك الأحداث والدي عن امتلاك الكتب اليسارية التي أثرت بشكل كبير على أشقائي وعليّ، ودفعني ذلك نحو القراءة والتعلّم، لكنني لم أكن أتخيل أنني سأدخل معترك الإعلام يوماً ما. خضت تجربة غريبة عن عالمي، وأنا الفتاة الفلاحة القادمة من أعماق الريف، وبعد تجربة قاسية ومريرة عشتها طيلة 23 عاماً متنقلة بين المعتقلات والسجون والمطاردات والاستدعاءات الأمنية، وحياة اجتماعية عشائرية قاسية أكلت أجمل سنواتي، استمرّت حتى سقوط النظام الدكتاتوري، بعدها استنشقت هواء الحرية. ورغم كل هذه الظروف، لم أتوقف عن محاولة الكتابة. كانت لي بعض المحاولات، كتابات مراهقة حالمة بحياة أفضل، سطرتها في دفتر مذكرات على شكل خواطر ورسمت فيها قلوبا تعشق الحياة، لكن حتى تلك المحاولات الطفولية تمت مصادرتها مع أحلامي الصغيرة من قبل أفراد الأمن يوم اعتقالي. تبقى تجربتي الإعلامية أهم إنجاز تحقق في حياتي عام 2004، سواء في جريدة «طريق الشعب» التي علمتني الكثير ولا زالت، أو العمل الإذاعي وتجربتي الأولى مع «إذاعة المحبة» - صوت المرأة العراقية، إذاعة موجهّة للنساء فقط. عملت مع زميلات وزملاء رائعين، منهم من فقدوا حياتهم وغيّبهم الموت، ومنهم من لا زال يواصل مهامه الإعلامية. كانت تجربة تأسيس إذاعة تعنى بالمرأة العراقية بعد سقوط النظام فريدة من نوعها، وتوفرت لديّ مساحة كبيرة لإعداد وتقديم برامج متنوعة منها يومية برنامج « استكان چاي» يطرح مشاكل يومية وقضايا تهم حياة المرأة٫ وبرامج اسبوعية، « نساء وغناء، قناديل الوطن الذي يتحدث عن النساء اللواتي تعرضن للاعتقال والسجن وتم تنفيذ حكم الإعدام فيهنّ من قبل النظام الدكتاتوري، وبرامج أخرى تطرح مشاكل وقضايا آنية يومية تواجه النساء، ومن البرامج الشيقة قراءات شعرية من إعداد الشاعر عريان السيد خلف، هو محاورة إنسانية جسدت فيها أنا دور الأم.

 اهتم الإعلام المحلي والعالمي بتأسيس الإذاعة وسلّط عليها الضوء كثيراً، لم يمر أسبوع بدون لقاءات مع قنوات عربية وعالمية. أتذكر أول لقاء كان مع قناة LBC اللبنانية، وكنت إحدى المتحاورات. سألني المذيع: «ماذا كنت تعملين قبل سقوط النظام؟» أجبته ببساطة: «كنت أعمل فلاحة». قال: «كيف كنت تعملين فلاحة وأنت الآن تجلسين وراء المايك!، ولديك برامج تقومين بإعدادها وتقديمها؟» سألته وما المانع؟

 أجابني بسؤال: «طيب ما هو تحصيلك الدراسي؟» قلت لم أكمل التعليم بسبب اعتقالي من قبل النظام السابق ومن ثم دخولي السجن. كان حواراً طويلاً انتقل إلى وضع النساء غير الآمن خاصةً في الشارع والاصطفاف الطائفي وأمور أخرى. وحين أذيع اللقاء في القناة توالت الاتصالات بالإذاعة، أحد الاتصالات كان من قناة CNN الأمريكية، وكان الزميل حارث الخضري (حالياً دكتور وأستاذ جامعي في السماوة اختصاص لغة فرنسية) هو من ردّ على الاتصال، وبالصدفة كنت في الإدارة. كان فرحاً جداً من الاتصال وهو يخبرهم بأن لدي مواعيد ولقاءات ووقتي مزدحم لذلك حدد موعد اللقاء بعد أسبوع!

قلت له وأنا أضحك: «حارث، ليش أنطيتهم موعد بعد أسبوع؟»

 أجابني بضحكة: «أنت صرتي طگوگ»، يعني مشهورة، وأردف: «بعدين خلّهم يعرفون أنت شخص مهم وعندك برامج والتزامات». ثم كان لي موعد مع قناة ال BBC البريطانية، أيضاً تحدثت عن معاناة النساء وظروف السجن وما يمر به البلد من احتراب طائفي يلقي بظلاله على المرأة. وبعد عرض البرنامج على الشاشة، اتصل بي الرفيق عبد الرزاق الصافي أبو مخلص وقال لي: «أنا معجب بحديثك الصادق والطبيعي والذي يصل للمشاهد بسلاسة»، فرحت جداً برأيه وهذا ما يؤكده المستمعون لبرامجي، بأنني تلقائية، أنتقي الكلمات التي تصل لأبسط مستمع، بدون تكلّف ولغة مفهومة للجميع. في عيد الصحافة الشيوعية، نتذكر تلك التجارب الفريدة التي تجسد الشجاعة والصمود أمام محاولات القمع والتهميش، وتبقى مثالاً يُحتذى به لكل من يؤمن بحرية التعبير والعدالة الاجتماعية.

عرض مقالات: