اخر الاخبار

قادت عمليات التركز والهيمنة العمودية الى “التحام” شديد البلاغة بين نظام الحزب الواحد ونظام الاسرة الواحدة. وقد أفضى ذلك الى نتيجة بالغة الاهمية والدلالة تمثلت باندماج التمركز/التراتب البطرياركي (الابوي)، وهو ما شجعته “نخبة السلطة”، وذلك لأن مثل هذا الاندماج يضفي عليها تماسكا شديدا ويكسبها قوة استثنائية تحتاجها وبشكل دائم لضمان اعادة انتاج سيطرتها بدون عوائق.

إن التراتب البيروقراطي، المدعوم بضخامة الريوع النفطية التي باتت تتهاطل على النظام كالمطر، يتوطد ويتطور بمقدار ما تتوطد سلطة “دولة الإستثناء”، وذلك لأن نظاماً معادياً للديمقراطية يعتبر شرطا ضروريا لضمان انتزاع الجزء الاكبر من “الكعكة” النفطية. لذلك نرى أن هذا التراتب غير ميال الى ترسيخ أي “تقاليد ليبرالية”. تدرك البرجوازية البيروقراطية بأن علاقاتها بشروط الانتاج المادي رهن بالموقع الذي تحتله في الدولة، لهذا يلاحظ، كما تشير تجارب عدة، أنها حريصة على “الاحتفاظ” بتماسك السلطة بالقدر الذي يسمح لها بمواصلة عملية النهب المنظم للفائض الاقتصادي والاستحواذ على الريوع النفطية، وحريصة على إعادة انتاج التشكيلة الاقتصادية/الاجتماعية وضمان التوازنات الطبقية السائدة. ويتعين التأكيد هنا على أن تنامي هذه “الشريحة “ من البرجوازية وتحولها، في مرحلة محددة، الى فئة مهيمنة في الائتلاف السائد خلال الفترة موضوع حديثنا، لا يعود فقط الى التنامي الكبير في الوظائف الاقتصادية/الاجتماعية التي باتت تؤديها الدولة في العراق، وإنما يعود أيضا الى عوامل أخرى ترتبط بطبيعة وتركيب الحزب الحاكم آنذاك واستراتجياته التي اختارها لتحويل البلاد. فاتجاه هذا الحزب الى فرض سلطاته من الأعلى وممارسة القمع على نطاق واسع، وإشاعة الروح العسكرية مقرونة بالديماغوجيا استحث ضرورة خلق الأجهزة “الضرورية” لإنجاز هذه “التحولات”. وقد أدى ذلك الى توسيع كبير في أجهزة القمع والمؤسسة العسكرية والإدارة والأجهزة الإيديولوجية هذا الى جانب التوسع في الإدارة الاقتصادية، وتنامي دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي مما أدى الى تضخم شديد في أجهزة الدولة والى توسيع كبير في قاعدة البرجوازية البيروقراطية، والى هيمنتها على النشاط الاقتصادي وتحكمها بالإيرادات المالية الكبيرة، كما قاد الى تضخم في شريحتها العليا. ورافق ذلك الارهاب الدموي السافر والجماعي ليصبح نهجا ثابتا للنظام.

ومن جهة أخرى تواصلت جهود الشركات الرأسمالية الأجنبية عاملة على تطوير علاقاتها الوطيدة مع قطاع المقاولات المحلي والمنتفعين من سلطة الدولة، الأمر الذي أدى الى تحول شريحة من رجال الحزب الحاكم وأعوانه والعديد من كبار موظفي الدولة ومدراء شركات قطاع الدولة الى طغمة من كبار “الرأسماليين” جراء العمولات التي كانوا يستلمونها من الشركات الأجنبية لقاء التلاعب بالعطاءات أو لتسهيل التعاقد على المشاريع.

وهكذا، نمت وترعرعت فئة واسعة من البرجوازية البيروقراطية، في أحضان القطاع الحكومي بالارتباط الوثيق مع الرأسمال الأجنبي، وشهد العراق لأول مرّة عددا كبيرا من أصحاب الملايين الذين كونوا الى جانب الفئات الأخرى من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في المدينة والريف القاعدة الاجتماعية للحزب الحاكم وسلطته الطبقية التي تحولت الى سلطة البرجوازية البيروقراطية والطفيلية المرتبطة بالدولة وبالشركات الرأسمالية الاحتكارية.

وقد أدى هذا التوجه وما اقترن به من أشكال التعاقدات – كالمشروع الجاهز والمشاركة والمقاولة الطويلة الأمد، والإدارة اللاحقة للمشروع – الى توطيد مواقع رأس المال الأجنبي، وبالتالي ربط الاقتصاد العراقي بوشائج هيكلية مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وتقويض أسس الاستقلال الاقتصادي للبلاد.

لقد ساق هذا النهج الاقتصادي، تدريجيا، الى حدوث تغييرات في المواقع الطبقية وأدى الى تحالفات طبقية جديدة تجسّدت في تشابك المصالح بين البرجوازية البيروقراطية وبين الفئات البرجوازية القديمة من الرأسماليين والملاكين وبقايا الإقطاع، والابتعاد عن مصالح الكادحين.

إن النهج الاقتصادي الجديد الذي اختطته ونفذته قيادة حزب البعث والدولة منذ عام 1974/1975 على الصعيد الداخلي والعلاقات الاقتصادية والدولية والانفتاح الاقتصادي على العالم الرأسمالي بأسره، وجد تعبيره الصارخ في النهج السياسي وممارساته اليومية. فمع بوادر نشوء وتطور التحالف السياسي الطبقي الجديد المرتبط عضويا بتحول الأوساط القيادية والكوادر الأساسية لحزب البعث والدولة من مواقع البرجوازية الصغيرة الى مواقع البرجوازية البيروقراطية من حيث السياسة والمصالح والممارسة، برزت بوادر ومخاطر الارتداد وتنامي النزعات الاستبدادية. فقد شهدت البلاد وابتداء من عام 1975 تصعيدا في وتيرة العداء للديمقراطية ومصادرة ذلك القدر المحدود من الحريات التي نشأت في أعقاب التأميم.

ولم يكتف (البعث) بذلك بل عمد الى تشديد سيطرته وانفراده بالإمكانيات الشرعية للعمل بين الجماهير، وشدد من هيمنته بالقوة على نقابات العمال ومنظمات الفلاحين والشباب والطلبة والنساء المجازة رسميا وإصدار القوانين التي تحرم نشاط المنظمات الجماهيرية.

يتعين الاشارة هنا الى خصائص نمو البرجوازية البيروقراطية التي تحمل، على الاقل في قشرتها العليا، ملامح العشائرية-الاقليمية- الطائفية من جهة، وأن مراكزها الوظيفية محكومة بعلاقاتها الحزبية. وبنتيجة أن عملية اعادة انتاج النظام كانت، في الحالات العادية، تمر عبر تصفيات متواصلة، فقد شهدت هذه الفئة تحولات “راديكالية” في بنيتها، وبدت تتخذ طابعا عشائرياً (من عشيرة واحدة)، وأصبح تماسكها الداخلي يقوم على رابطة القرابة وأواصر الدم بدلاً من رابطة الانتماء الاقتصادي والسياسي/الحزبي، الذي كان ضرورياً في المراحل الأولى. ولكن لا ينبغي استخلاص استنتاج يقوم على فرضية وجود قطيعة بين التحليل الطبقي والتحليل المستند على مدخل “ القرابة/المصاهرة “. إذ يمكن اعتبار هذه العلاقات (القرابة، المصاهرة)، التي تنسج هنا، كعلاقات طبقية بمعنى ما لأنها تقوم على أسس مادية وتستخدم لتعزيز السيطرة والنفوذ المتعدد الصعد.

هكذا، إذن، فإن رأسمال القطاع الحكومي الذي كان يخضع لإشراف “الصفوة  البيروقراطية”، التي تستمد سطوتها من الريوع النفطية، ذات السمات العشائرية يتحدد، في السوق، مع جزء من رأس المال العامل (الناشط) في حقول التجارة والمضاربة، وتكون النتيجة المنطقية اندماج الدولة، وتمثلها “الصفوة البيروقراطية”، مع رأس المال الطفيلي الخاص وينشأ تحالف جديد هو عماد النظام في هذه المرحلة.

إن العلاقة الشائكة بين الطبقة الحاكمة بتنوع مواقعها وبين البيروقراطية (المدنية والعسكرية) يمكن أن تفيد في الفهم الجزئي لهذه الحالة التأريخية، وعلاقة التمثيل الطبقي وآلياته الطبقية والسياسية. وهنا لا بد من الاشارة الى دور الريوع النفطية في إضاءة جزء من العلاقة، أي التحول الطبقي للبورجوازية البيروقراطية (بشقيها المدني والعسكري) واستحواذها على “الريع البيروقراطي” واندفاعها للاستثمار من خلف الستار. والمقصود بـ “الريع البيروقراطي” هنا هو تحويل المركز البيروقراطي (المدني أو العسكري) إلى موقع طبقي لانتزاع الربح، الذي يأخذ تجليات عدة: الابتزاز- الخاوة – الرشوة- السرقة، .. الخ، والتي تأتي كتحصيل حاصل، باستغلال مجموع الصلاحيات التي تمنحها قوانين النظام الدكتاتوري، والنفوذ والحصانة التي يتمتع بها من يشغل هذه المواقع.

غزو قوات النظام الدكتاتوري للكويت...”القشة” التي كسرت ظهر البعير !!

غير أن سنوات التسعينات من القرن العشرين، وتحديدا بعد غزو النظام العراقي السابق للكويت وما ترتب عليه من قرارات دولية وما تبعها من نتائج كارثية، شهدت بروز المزيد من المعالم والسمات الجديدة من الضروري التوقف عندها بهدف استكمال صورة “ التحولات “ الفعلية التي شهدها الائتلاف الذي كان سائدا حتى لحظة سقوطه في 9/4/2003.

كانت أولى “ثمار” غزوة الكويت تلك التوليفة الواسعة من القرارات الدولية وأهما الحصار الاقتصادي الذي بدأت أثاره التدميرية على الاقتصاد والمجتمع تظهر بوضوح. وكأن أحد الاجراءات المرتبطة بالحصار إيقاف تصدير النفط الخام، المورد الاساسي الذي تعتمد عليه السلطة في اعادة إنتاج هيمنتها بدون عوائق، من خلال إعالة نفسها وكذلك رشوة قسم كبير من الفئات الاجتماعية اعتماداً على الريوع النفطية الضخمة التي كان يحصل عليها النظام المقبور. ففي عام 1990 (وهو العام الذي شهد غزو الكويت) بلغت العوائد النفطية 9,594 مليار دولار لتنخفض الى 351 مليون دولار في عام 1991 و 680 مليون دولار عام 1997. ومن جهته أدى التضخم المفرط الذي شهدته البلاد بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق الى انهيار القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من السكان وبالتالي الى تعاظم التهميش والاستقطاب الاجتماعيين.

وقد تسبب هذا الواقع الجديد – توقف تدفق الجزء الاعظم من الريوع النفطية نتيجة فرض الحصار - في تقليص مستمر للقاعدة الاجتماعية للنظام، الذي سعى جاهدا لتعويضها بوسائل عديدة لم تكن كافية لضمان اعادة انتاج الهيمنة بدون عوائق. وبمقابل تقلص الموارد المالية الآتية من تصدير النفط الخام، وبسبب الحصار الاقتصادي وعلى هامشه، بدأت تنشأ مجموعة من المصالح الاقتصادية تدور حول الاستيرادات من مختلف السلع ومن خارج سيطرة الامم المتحدة التي تعتبرها “غير شرعية”. ونشأت على هذه الخلفية تجارة رائجة كما تبلورت “شريحة جديدة” حول النظام، كان طابعها الأساسي طفيلي، نمت بقوة تحت مظلة الحماية التي وفرها أقطاب “الائتلاف العائلي الحاكم” الذي ارتبطت معه بوشائج متنوعة، تعززت على الدوام، رابطة مصيرها بمصيره بشكل مطلق. هذا مع العلم أن النظام كان يجري بشكل متواصل “إعادة هيكلة” داخل هذه الفئة مستخدما وسائل متنوعة من بينها الحل الحاسم: الاعدام لأقطاب منها تحت ذرائع مختلفة !!.

ويدلل على طبيعة هذه “ الشريحة “ و”السرعة الصاروخية” لتطور ثروات بعض أعضائها تلك الفضائح المرتبطة بـ “نموها”، والتي ما كانت تحدث لولا “متانة” تلك الصلات بأقطاب النظام. فقد شهدنا خلال السنوات الاخيرة التي سبقت سقوط النظام الدكتاتوري العديد من الفضائح المالية التي أداها بـ “إيقاع باهر” شباب كانوا، ولفترة قصيرة، لا يملكون أي شيء، أصبحوا فجأة أثرياء يمتلكون المليارات، ثم فجأة يعلنون إفلاسهم أو “يختفون” بعد أن يكونوا قد “شفطوا” تلك الاموال التي جمعوها من خلال “الشركات” التي أقاموها على عجل لإنجاز أعمال قذرة. هكذا توطدت مواقع هذه الفئة “البرجوازية الطفيلية” متحولة الى قاعدة اجتماعية  “وطيدة” ارتكزت عليها السلطة. ويتعين التأكيد على حقيقة أن هذه الفئة كانت تضم شرائح متنوعة من التجار والممولين والمقاولين والوكلاء في مجالات التصدير والاستيراد، وكان لها دور ملحوظ خلال الفترة المنصرمة. وقد تعزز هذا الدور خلال الحصار واتخذ طابعا صارخا من خلال تركز نشاطاتها على المضاربات وأعمال الوساطة والتهريب والسوق السوداء، وكانت لديها رغبة عارمة في المتاجرة بكل شيء بما فيها بيع الوطن !!. ولم يكن ذلك كله ممكنا من دون دعم وحماية ورعاية من أبرز رموز النظام وفي مقدمتهم ابناء وأقارب رأس النظام السابق.

عرض مقالات: