يتناول انجلز في مؤلفه (حالة الطبقة العاملة في إنكلترا)، العقبات التي تواجه توحيد نضال الطبقة العاملة، فإضافة إلى معاناتهم من أعراض الأزمات الاجتماعية المذكورة سابقا (الجريمة، الإدمان، إلخ)، نجده يطرح أيضا مواضيع العرق والهجرة والجنس.
في هذا المؤلف يستخدم انجلز فكرة «العرق» (التي يقصد بها القوميات الأوروبية المختلفة) بشكل رائع لوصف العداء الاجتماعي الشديد بين الطبقة العاملة (على اختلاف أعراقها) ومن يتسلط عليها:
«ان المزج بين طباع الآيرلندي البسيط، السريع الانفعال، وبين الإنجليزي المستقر والمنطقي والمثابر، سيعود، على المدى الطويل، بالفائدة لكليهما. فلولا الطبيعة الآيرلندية لاستمر تحكم الأنانية الفظة للبرجوازية الإنجليزية بالطبقة العاملة بقوة أكبر. ان [الطبيعة الآيرلندية] التي كانت تحمل الكثير من الأخطاء، وتحكمها المشاعر في المقام الأول، هي التي خففت من برودة الإنجليزي من خلال اختلاطهما معا. في ضوء كل هذا، ليس من المستغرب أن تصبح الطبقة العاملة تدريجيا سلالة منفصلة بالكامل عن البرجوازية الإنجليزية».
هنا، نلاحظ ان انجلز يفتح الباب أمام رؤى مستقبلية من خلال وصفه تكوين الطبقة العاملة ككيان اجتماعي دولي، لا في أفكارها فقط، بل في تكوينها البشري الحرفي ايضا. بمعنى ان اختلاف الأعراق يمكن ان يتحول الى نقطة قوة لصالح البروليتاريا.
ان دعوة انجلز إلى الوحدة بين العمال الإنجليز والايرلنديين تعني أيضا إدراكه بأن الهجرة يجب أن تكون مكونا ملازما للرأسمالية الصناعية، وحقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه طبقة عاملة محلية أو وطنية بحتة. لكنه رغم ذلك يؤكد دعمه «لانتزاع الاستقلال الوطني» لايرلندا من إنجلترا.
وفي هذا المؤلف أيضا يكشف انجلز حقيقة أن الطبقة العاملة الإنجليزية تتكون إلى حد كبير من النساء، ومن الفتيات والفتيان الصغار، إذ وجد أنه من بين ما يزيد على 400 ألف عامل في مصانع النسيج في بريطانيا عام 1839، كان هناك أكثر من 242 ألف امرأة أو فتاة. وهكذا، كان أكثر من 60 في المائة من الأشخاص الذين دعموا الثورة الصناعية في بريطانيا كانوا من الإناث. بمعنى انه أدرك أن البروليتاريا، طبقة ماركس ذات السلاسل الراديكالية، كانت تضم النساء منذ بداياتها، وبالتالي لا يمكن الاستغناء عن مشاركة النساء في النضال.
أنجلز ينتقد نفسه
تشكلت خطط إنجلز لإنتاج عمل كبير عن التاريخ الاجتماعي لإنكلترا بينما كان لا يزال يعيش في ذلك البلد (من تشرين الثاني 1842 إلى آب 1844). وكان ينوي، في البداية، تنفيذها في شكل سلسلة من المقالات في (الحوليات الفرنسية الألمانية) تحت عنوان عام حالة إنكلترا. لكن السلسلة ظلت ناقصة، فقد دفعه إدراكه للدور الخاص للبروليتاريا في المجتمع البرجوازي إلى جعل حالة الطبقة العاملة الإنجليزية موضوعا لدراسة خاصة.
عند عودته إلى بارمن في أوائل أيلول 1844، شرع إنجلز على الفور في إنجاز خطته المنقحة، مستخدما المواد التي جمعها أثناء وجوده في إنكلترا. في منتصف آذار 1845، اكتملت المخطوطة وأرسلت إلى الناشر فيغاند في لايبزغ، لينشرها في بداية حزيران 1845، عندما كان إنجلز قد انتقل بالفعل إلى بروكسل، حيث كان ماركس، الذي طرد من فرنسا، يقيم فيها منذ شباط من ذلك العام.
كانت استجابة الصحافة الألمانية إيجابية جدا، حيث قامت العديد من الصحف والمجلات عام 1845، بنشر مراجعات للكتاب. وجرى وصفه بأنه «بلا شك أحد أهم الظواهر في أدبنا الحديث». وأن الكتاب لم يغرس فقط «الكراهية والغضب ضد الظالمين»، بل أيضا «شعور بالأمل والإيمان بالنصر النهائي للعقل والعدالة، في أن العقل الأبدي للبشرية، الذي، على الرغم من كل المخاطر والعواصف، سيؤمن مستقبلاً جميلا». ويذكر أحد العمال الثوريين أنه «كان أول كتاب حصلت منه لأول مرة على فكرة عن حركة الطبقة العاملة».
واستند ماركس، في أبحاثه الاقتصادية، في كثير من النواحي إلى المواد والاستنتاجات لعمل صديقه، وقد اقتبسها في العديد من فقرات (رأس المال). بيد ان انجلز، وبشجاعة الثوري، يعود بعد سنوات لينتقد كتابه في بعض المواضع محذرا القراء منها، وأعترف بأنه كُتب «بإلهام شبابي حقيقي، وبأسلوب عاطفي، وخلص الى توقعات جريئة»، وأنه وجد فيه بعض نقاط الضعف النموذجية للمرحلة الأولى في تطور الشيوعية العلمية.
لذا نجده يكتب في ملحق الطبعة الأمريكية (1887): «... يعرض هذا الكتاب في كل مكان آثار ولادة الاشتراكية الحديثة من أحد أسلافها - الفلسفة الألمانية. وهكذا تم التأكيد بشكل كبير على القول المأثور أن الشيوعية ليست مجرد عقيدة حزبية للطبقة العاملة، لكنها نظرية تحرر المجتمع ككل، بما في ذلك الطبقة الرأسمالية، من ظروفها الضيقة الحالية. هذا صحيح بما فيه الكفاية من الناحية المجردة، لكنه عديم الفائدة تماما، وأحيانا أسوأ من الناحية العملية. طالما أن الطبقات الغنية لا تشعر فقط بالرغبة في أي تحرر، بل تعارض بشدة التحرر الذاتي للطبقة العاملة، طالما أنه يجب تحضير الثورة الاشتراكية وخوضها من قبل الطبقة العاملة وحدها». ومضى إنجلز في شرح سبب عدم تأكيد افتراضه في عام 1845 بأن الثورة الاشتراكية في إنكلترا وشيكة. ومن بين أسباب ذلك، شدد على تراجع الشارتية بعد عام 1848 والهيمنة المؤقتة للميول الإصلاحية في حركة الطبقة العاملة الإنجليزية - التي نشأت من احتكار إنكلترا الصناعي للسوق العالمية، والذي تبين أنه أكثر ديمومة مما افترضه هو.
خلاصة الأمر ان انجلز كان مهموما بكل ما يراه ويختبره بنفسه. فهو إذ يُظهر اعترافه بالبروليتاريا كقوة اجتماعية محتملة قادرة على تفكيك الإمبراطورية البريطانية، فهو يدرك بنفس القدر التحديات التي تواجهها. انه يقول بأن هؤلاء العمال الذين جمعهم رأس المال وأخضعهم لوضع مرعب من الأمراض الجسدية والقلق النفسي، لم يكونوا أبدا متجانسين في ما يتعلق بأعراقهم وقومياتهم وأجناسهم، لكنهم يمتلكون القدرة على توحيد نضالهم طالما ان همومهم واحدة. وقد نجح في التقاط الفظاظة والفوضى التي تغمر كل مستوى من مستويات المجتمع الرأسمالي. ان هذه الرؤية، جنبا إلى جنب مع الغضب الثوري المتولد من المعاناة المشتركة رغم اختلاف البروليتاريا من حيث الأعراق والأجناس، تجعل هذا الكتاب أكثر أهمية اليوم منذ نشره لأول مرة.