اخر الاخبار

تحدثت العشرات من الكتب والدراسات والوثائق، وماتزال، بهذه التفصيلات أو تلك، عن مواقف وأدوار وصفي طاهر، أحد أبرز قادة ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) العراقية عام 1958.. وقبل إيراد بعض الجديد عن الرجل، ينبغي القول على ما نعتقد، بان كثيراً مما احتوته الكتب والدراسات والوثائق المنشورة عنه بحاجة إلى تمحيص وتدقيق حريصين. وفي عودة للجديد الموعود عن الرجل نقول بأنه من مواليد 10 تموز 1918 ببغداد، من عشيرة البياتي العراقية العريقة في تاريخها وأصولها. فوالده، وجده من المساهمين والمؤسسين لطلائع جيش البلاد أوائل القرن الماضي.. وقد حاول وهو ابن السادسة عشرة أو السابعة عشرة التطوع مع مئات الشبان، وغيرهم، من بلدان العالم المختلفة، لمقاتلة الفاشية الإسبانية في الثلاثينيات الماضية. وقد استطاع ضغط العائلة في الساعات الأخيرة في منعه من تحقيق ما عزم عليه. تخرج الرجل من الكلية العسكرية ببغداد عام 1939 برتبة ملازم، ليتنقل، وينقل بعدها إلى مدن وبلدات في مختلف أرجاء البلاد، وتدرج في مهماته العسكرية حتى رتبة عقيد عند قيام الجمهورية، وليستشهد وهو برتبة عميد (زعيـم) في التاسع من شباط (فبراير) عام 1963. وقد رفض التمتع بأي قِدم إضافي في ترقياته، حينما كان مسؤولا ومقرراً ومعنياً بشكل كبيرعن تلك الترقيات للفترة 1958-1963..

 

* محطات من سجله العسكري

ويقول التسلسل الزمني لحياته العسكرية إن وصفي طاهر شارك في أحداث عام 1941 المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، ضمن القوات العراقية التي تشابكت مع القوات البريطانية في سن الذبان / الحبانية، وقد استطاع مع تشكيله العسكري التابع له، الانسحاب الناجح، والنجاة من الأسر الذي شمل الكثير من القطعات العراقية بعد خسارتها للمواجهات والمعارك التي دارت حينذاك. كما كان متحمسا للمشاركة في الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1948. وقد تم نقله، بناء على طلبه، إلى إحدى الوحدات الفعالة في فلسطين اعتباراً من 12/7/1948 ليعين آمراً لحامية «طوباز» بعد أقل من شهر على ذلك التاريخ. ثم شغل آمر سرية فوج «الشعراوية» وبعد ذلك مسؤولية السرية الثالثة لفوج «خالد ابن الوليد» وليتولى بعدها آمرية حراسة مقر القيادة العسكرية العراقية في تلك الحرب. وقد شارك، ضمن مختلف مشاركاته الفعلية الأخرى في الحرب، في تشكيل أول فصيل للمقاتلين الفلسطينيين خلف خطوط القوات المعادية. وكان حينها آمراً لرتل «فرعون» وساهم في معركة «الأشرفية» و»فرونة» بتاريخ 1/8/1948 وكذلك في معركة «جنين» الشهيرة... وقد كان معه في تلك الفترة الملازم (الشهيد في عام 1963) فاضل البياتي، وقد أصدرت القوات الإسرائيلية أمرا لعملائها باغتيال وصفي بعد العمليات الجريئة والمفاجئة ضدهم.. يعود الرجل إلى بلاده من الأردن وفلسطين بعد معايشة للأحداث والوقائع ومشاركته الفعلية فيها، ليحمل المزيد من الإصرار الثوري، والقناعة في ضرورة التغيير، وليبدأ هذه المرة بتحركات عملية في سياق النضال التحرري وذلك منذ عام 1950 حين انطلق في اتصالات عديدة، وليكون أحد ستة مؤسسين لحركة تنظيم الضباط الأحرار في العراق، والهيئة العليا لها بعد ذلك. وقد صرح لزوجته (بلقيس عبد الرحمن) وهي أمينة سره منذ ارتباطهما عام 1943 بأنه شخصيا من زكّى الزعيم (اللواء لاحقا) عبد الكريم قاسم أمام مسؤولي التنظيم، وقد أصبح لاحقاً رئيساً له، كما هو معروف. ووفقاً لشهادات وكتابات العديد من رفاقه، ومن مختلف الاتجاهات، كان وصفي طاهر لولب التنظيم ومحوره الفاعل طيلة سنوات. وقد قبل مهمة المرافق الأقدم لرئيس الوزراء عام 1953 وذلك لحساسية ذلك الموقع وفائدته لنشاطات تنظيم «الضباط الاحرار» في التهيئة العسكرية ضد النظام الملكي السائد آنذاك، ونجحت في 14 تموز (يوليو) 1958 من الاطاحة به.

 

* شهادات عن التمهيد لقيام الجمهورية

استمرت جهود وصفي طاهر بشكل مضاعف خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت قيام إسقاط العهد الملكي، وخلال الفترة 1956-1958 تحديدا، ويعلمنا شهود عيان من أهل البيت، وخاصة من خلال ما سجلته بلقيس عبد الرحمن، أرملة الرجل، التي رافقت مسيرته تلك، أن قيادات الضـباط الأحـرار كانت تجتمع في دار العـائلة بمنطقة الصليخ في بغداد عامي 1957-1958، وكانت هي – بلقيس-  بالذات من تعنى بمراقبة الأجواء الخارجية، وشهدت أحياناً ولعدة مرات، انعقاد اجتماعين في آن واحد، في غرفتين منفصلتين، أحدهما لعسكريين، والآخرى لمدنيين، ثم علمت من زوجها لاحقاً، أنهما كانا لقيادات من الضباط الأحرار، ولمسؤولين شيوعييـن، وكل على انفراد، وقد كان وصفي طاهر يتردد بين غرفتي الاجتماع في البيت، لنقل ومناقشة الآراء والملاحظات المتبادلة بين الجانبين اللذين لم يتفقا على عقد اجتماع مشترك لأسباب صيانية من جهة، وسياسية من جهة أخرى. ولم يكن يعرف تلك التفاصيل من الضباط، غير عبد الكريم قاسم ومحي عبد الحميد. وفي فترة التمهيد للثورة وقيامها في تموز 1958 تتحدث لنا المعلومات العائلية عن محاولة سبقت ذلك الموعد بشهرين، ولكنها لم تنفذ، وقد قام وصفي طاهر ليلتها بتوديع زوجته وتوصيتها بأن تفتح المذياع عند الساعة السادسة صباحاً، ولكن الرجل عاد بعد ساعات ليبلغها بتأجيل موعد الحركة. ثم عاد ليكرر الموقف ذاته ليلة الرابع عشر من تموز، وليبث راديو بغداد في الصباح الباكر البيان الأول... ثم يعود وصفي طاهر مساء ذلك اليوم ليبقى نصف ساعة فقط لطمأنة العائلة، والتوجه ثانية إلى وزارة الدفاع حيث تجتمع قيادة العهد الجديد وزعيمها عبد الكريم قاسم.

 

* عن مصرع نوري السعيد

ووفقاً لشهادات المصادر نفسها، ونقلاً عن وصفي طاهر شخصياً، انه كان مكلفاً باعتقال نوري سعيد، الذي نجح بالهرب من البيت، فجر 14/7/1958 بعد أن علم بتحركات عسكرية «مريبة». وفي اليوم التالي، وعند ورود خبر إلى القيادة بمقتل ذلك السياسي الملكي الأهم، في منطقة «البتاوين» ببغداد، ذهب وصفي إلى موقع الحدث ليجده قد فارق الحياة فأوعز بنقله ودفنه في مقبرة باب المعظم، ومن دون أن يطلق أية رصاصة، خلاف ما ذكر في مصادر مختلفة «مطلعة» أو مدعية. ثم جرى ما جرى بعد ذلك من إخراج الجثمان، والتمثيل به في ظل هياج شعبي غير مسيطر عليه، وذلك ما استثار غضب عبد الكريم قاسم، ووصفي طاهر، وعدد آخر من قيادات الثورة، مثلما استثارهم أيضاً إطلاق الرصاص على العائلة المالكة، وتصفيتها في قصر الرحاب، اذ كان من المتفق عليه بين قيادة تنظيم الضباط الأحرار تسفيرها إلى خارج العراق.. وهكذا تستمر الأحداث، ويبقى وصفي طاهر ملازماً لصديقه الشخصي، الزعيم عبد الكريم قاسم، مساعداً أول له، ومسؤولاً عن إدارة المقر الرئيس لقيادة الثورة، ولنحو عامين، ليبدأ بعدها العد التنازلي، ليس في علاقة الرجلين وحسب، بل وفي مجريات ومسيرة البلاد عموماً، إذ بدأت الدسائس تفعل فعلها، وبشكل محبوك من جانب المناوئين، والانتهازيين، وركاب الموجة، وفقاً لتقييمات وصفي، والذي أبلغ ذلك إلى قاسم صراحة، وبأمثلة ووقائع ملموسة، ولكن الأخير لم يعد ذلك الذي كان، وقد بات يحسب حساباته الخاصة، متفرداً في قراراته وإجراءاته دون استشارة احــد.

 

* مساع لمنع حدوث الكارثة

وفي موقف للتأثير في تلك الاحداث، حاول وصفي طاهر أن يعرب عن احتجاجه، وان يضغط بأساليب مختلفة لإصلاح الأمور، ومن بين ذلك انقطاعه عن التواصل مع زعيم الثورة، والاكتفاء بقضاء ساعات قليلة فقط، في المقر الرئيس بوزارة الدفاع، ليعود إلى البيت، متأثراً وعصبي المزاج مؤكداً أن ما يجري لا ينسجم مطلقاً مع ما اتفق عليه، وخاصة التفرد في القرارات، وعدم تسليم السلطة لمدنيين عبر انتخابات برلمانية. ولكن كل ذلك لم يمنعه من الاستمرار في «مهمته» الرسمية، وفي محاولات التأثير على عبد الكريم قاسم وتنبيهه لمكامن الخطر المحيق، ليس به وحده، وانما بمصير الشعب والبلاد عامة، ومن دون جدوى، فيستمر الحال على وضعه بل ويزداد تدهوراً، وحتى الأيام الأخيرة التي سبقت وقوع الانقلاب الفاشي في الثامن من شباط 1963.. وقبل يومين من ذلك التاريخ، يتصل عبد الكريم قاسم هاتفياً بوصفي طاهر في البيت، ليطلب منه الحضور العاجل، فيقوم الرجل بالذهاب مباشرة إلى المقر الرئيس بوزارة الدفاع، وليطلع على قائمة بأسماء الذين يهيئون لانقلاب عسكري والإجراءات الحاسمة المقررة تجاههم يوم السبت، التاسع من شباط 1963 ... غير أن الانقلابيين استطاعوا كما هو معروف استباق الأمر، والقيام بحركتهم الفاشية قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة فقط..

 

* في يوم 8 شباط المشؤوم

وارتباطاً مع بعض تفاصيل الحدث الأبشع في تاريخ البلاد الحديث، وبعد ورود أخبار أولية صبيحة الجمعة الثامن من شباط عن تحركات الانقلابيين، انتقل وصفي طاهر على الفور إلى بيت عبد الكريم قاسم، لقيادة الموقف المقابل، وقد اتصل بعد ذلك من وزارة الدفاع ليطلب من زوجته أن تنتقل مع بناتهما الاربع إلى أحد بيوت الأقارب لمزيد من الأمان، بعد ان هاجمت فرق من المسلحين الفاشيين بيوت بعض القيادات العسكرية المؤثرة، ومنهم الشهيدان جلال الأوقاتي وفاضل عباس المهداوي.

وفي آخر اتصال هاتفي قال وصفي لزوجته إنهم يحاولون السيطرة على الموقف، ودعاها إلى الشجاعة والصبر، وكان ذلك عند الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم المشؤوم: الجمعة 8 شباط (فبراير) 1963. وفي حديث تلفزيوني عُرض عام 2007 بمناسبة الذكرى السنوية السوداء للانقلاب الفاشي، أكد أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي، نعيم سعيد، أن وصفي طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة ونفاذ الذخيرة، ولأنه هو المطلوب أساسا. وحينما استدارا بعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلقة نارية أنهى بها وصفي طاهر حياته، كما كان قد قرر وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، من أنه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه. ويضيف المتحدث «نعيم» أنه و»عذاب» مددا وصفي طاهر، وأغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف كيف عرضت العصابة الانقلابية الفاشية الجثمان عبر التلفزيون لاحقاً لا لشيء إلا لإحباط عزائم المواطنين، المقاومين في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الجمهورية الاولى..

 

* سمات ووقائع شخصية نافذة

وأخيرا، وقبل نهاية هذا التوثيق الموجز، لمسيرة «رجل من العراق» حافلة بعطائها، وبإجماع حتى العديد من مناوئيه، لابد من التطرق إلى بعض سمات وصفي طاهر الشخصية، وقد عمدنا ان يكون الحديث عن هذا الأمر في ختام هذه السطور لكي لا تؤثر في موضوعية ودقة المعلومات، والسيرة، ليطلع عليها القراء والمتابعون. ومنها أن وصفي طاهر كان ذا شخصية نافذة ومتميزة بين عائلته، وأصدقائه ومعارفه، وقد غلبّ الشأن الوطني والعام دائماً أمام الذاتي والخاص، وقد كان برغم جديته، ومبدأيته، انساناً متواضعاً في حياته العائلية والشخصية، مثقفاً من طراز استثنائي، يحب الموسيقى العالمية، وشغوفاً بالقراءة، والشعر، وكانت لديه مكتبة عامرة يكفي القول بأنها شكلت مصدراً تمولت منه عائلته بعد استشهاده لفترة من الوقت. كما تجدر الاشارة إلى أن ثمة تميزاً فريداً في صداقاته وارتباطاته الاجتماعية لعل من مؤشراته، العلاقات الوطيدة التي ربطته مع الجواهري، وزكي خيري ورفعت الحاج سري وثابت حبيب العاني وشخصيات نافذة أخرى، من مختلف المشارب والاتجاهات، وفي ذلك بحد ذاته ما يومئ إلى دلالات ومؤشرات إضافية عديدة، توضح شيئاً من صورة ذلك الرجل العراقي الذي نسجل لبعض سيرته التاريخية...

ـــــــــــــــــــــــــ

* هوامش واحالات:

- لكل الأحداث أعلاه، شواهد ووقائع عديدة، ربما تسنح فرص قادمة لتوثيق المزيد عنها..

- جميع ما تمت الإشارة إليه يستند إلى معايشات ومعلومات عائلة وصفي طاهر، وبخاصة كتابات أولية لزوجة الرجل، وقد كانت تسعى لإعدادها لاحقاً على شكل مذكرات وذكريات... ولكنها توفيت في مغتربها بالعاصمة التشيكية، براغ بتاريخ 19/3/2001 قبل ان تتمكن من اتمام الأمر..

- جرى حذف العديد من الأسماء والشهادات الأخرى احترازا من الشخصنة، وابتعادا عن إشاعة الثارات في العراق المبتلي بها.

عرض مقالات: