اخر الاخبار

من بين الرسائل الكثيرة التي كتبتها روزا لوكسمبورغ من السجن رسائل كتبتها الى صوفي ليبنخت، زوجة كارل ليبنخت، التي كانت روزا تدلّلها باسم «سونيا» او«سونيوشا» او «سونيوشكا». ننشر هنا احدى هذه الرسائل

... في نيسان من العام الماضي اتّصلت بك عند العاشرة صباحاً لكي تحضري فوراً إلى الحديقة النباتية من أجل الاستماع إلى العندليب الذي كان يؤدي واحدة من معزوفاته المعتادة هناك، أتذكرين؟ اختبأنا خلف شجيرات كثيفة وجلسنا على الصخور بالقربِ من جدول ماء سلسبيل. وعندما توقف العندليب عن الغناء، حلّ مكانه فجأة بكاء رتيب نوّاح صوته أشبه بـ «كلِكلِكلِكلِكلِكلِكلِك!». قلت حينها إنه لا بد من أن يكون نوعاً من طيور الأهوار، كارل وافقني الرأي، لكننا لم نعرف ما هو نوعه. تخيلي، سمعت منذ أيام قليلة في الصباح الباكر هنا الصوت نفسه آتياً من مكان قريب. انتظرت بفارغ الصبر كي أعرف أيّ طائر هو، ولم يهدأ لي بال إلى أن عرفت. اتضح في النهاية أنه ليس طائر أهوار. إنه طير اللوّاء، لونه رمادي وحجمه أكبر بقليلِ من حجم عصفور الدوري. وقد اكتسب اسمه من إيماءاته الجذابة والغريبة والتواءات عنقه التي يؤديها بهدف ترهيب أعدائه لحظة شعوره بالخطر. وهو يقتات على النمل فحسب، يجمعها بلسانه الدبق تماماً كحيوان «آكل النمل». الإسبان يسمونه «أورميغيرو. hormiguero وضع موريكه (1) بعض الأبيات الممتعة عن اللوّاء، ودمج هوغو وولف (2) صوته في الموسيقى. الآن وقد علمت ما هو الطائر صاحب البكاء الرتيب، أشعر بالسرور كما لو أنني تلقيت هدية. قد ترغبين في مراسلة كارل لإخباره بذلك، سيرغب في معرفة هذه المعلومة.

تتساءلين عما أقرأ. العلوم الطبيعية في غالب الأحيان. إني أدرس توزيع النبات والحيوان. البارحة كنت أقرأ عن أسباب اختفاء الطيور المغردة في ألمانيا. لقد أدى انتشار الحراجة العلمية والبستنة والزراعة إلى إقصائها عن أماكن تعشيشها وعن مصادرها الغذائية. نحن نقضي أكثر فأكثر على الأشجار المجوفة والأراضي البور والآجام والأوراق المتساقطة. انفَطر قلبي. لم أفكر كثيراً بفقدان البشر للمتعة، لكنني تألمت من فكرة التدمير البطيء والمعاند لهذه المخلوقات الصغيرة المسالمة، التي لا حول لها ولا قوةَ، وانهالت دموعي على وجهي. تذكرت في تلك اللحظة كتاباً قرأته في زيوريخ، يصف فيه العالم سييبر (3) هلاك الهنود الحمر في أميركا الشمالية، إذ تم نفيهم تدريجاً من أراضي الصيد الخاصة بهم من قبل البشر المتحضرين، تماماً كالطيور.

لا بد من أنني متوعكة لكي استشعر بالأشياء كلها بهذا العمق. مع ذلك، يبدو لي أحياناً أنني لست كائناً بشرياً على الإطلاق، بل طائراً أو حيواناً في هيئة بشرية. أشعر بالاطمئنان والراحة في حديقة صغيرة كتلك الموجودة هنا، وأكثر منها في المروج التي يطن النحل في عشبها، ومن المؤتمرات الحزبية التي كنا نعقدها. لا بأس إن أخبرتك بذلك، أعلم أنك لن تتهميني بخيانة الاشتراكيّة! فأنت تعلمين أنني أود أن أموت في أحد قتالات الشوارع أو في السجن.

لكن وجداني الأعمق ينتمي إلى طيور القرقف أكثر منه إلى الرفاق. هذا ليس لأنني أبحث عن ملجأ لأجد الهدوء والسكينة في أحضان الطبيعة، على غرار ما يفعل العديد من السياسيين المفلسين روحياً. بل على خلاف ذلك، فإنني أرى في الطبيعة من قسوة ووحشية ما يجعلني أتألم بشدة.

سأروي لك حدثاً لن أنساه ما حييت. في الربيع الماضي وبينما كنت أمشي في طريق هادئٍ ساكن، عائدة من نزهتي الريفية، رأيت بقعة سوداءَ صغيرة على الأرض. انحنيت إلى الأمام، وإذ بي أرى مأساة بكماءَ تحدث. خنفساءَ ملقية على ظهرها تلوّح بقوائمها عاجزة، بينما يحتشد حولها جمع من النمل يلتهمونها حيّة! أصابني الرعب، فأخذت منديلي من جيبي ورحت أبعد النملات الصغيرة المتوحشة عنها. لكن النملات كانت عنيدة ومتشبثة إلى درجة أن الأمر استغرق مني بعض الوقت قبل أن أحرر الخنفساء  البائسة. وعندما وضعتها على مسافة آمنة بين الأعشاب، أدركت أن اثنتين من قوائمها كانتا قد قضمتا بالكامل... هربت من المشهد وأنا أشعر بأني أسديت خدمة مريبة وملتبسة.

غسق المساء يدوم طويلاً هذه الأيام. أحب هذه اللحظات. في «الطرف الجنوبي» كان يوجد الكثير من طيور الشحرور، لكن هنا لا مرأى لها ولا مسمع. كنت أطعم زوجاً منها في الشتاء، لكنهما اختفيا.

كنت أتجول في الشوارع في هذا الوقت من النهار عندما كنت في «الطرف الجنوبي». لطالما سحرتني المصابيح الغازية عندما تسطع ببريقها المتورد مع ضوء المغيب البنفسجي، يبدو نورها غريباً في ضوء الدجّة، كما لو أنها تخجل من نفسها. ثمّ ترين هيئة شخص يتحرك مسرعاً في الشارع، ربما تكون خادمة تسرِع الخطى لإحضار شيءٍ من الفرّان أو البقّال قبل قفل المتاجر. كان أولاد صانع الأحذية أصدقائي، وكانوا يلهون في الشوارع بعد حلول الليل إلى أن يستدعيهم نداء صارخ إلى الداخل. وكان هناك دائماً شحرور متباطئ لا يهدأ، يواصل الزعيقَ كطفل شقي أو يستيقظ فجأة من غفوته ويحلق من شجرة إلى أخرى. أما أنا فكنت لا أبرح مكاني وسط الشارع، أعد النجوم وهي تظهر في السماء، عزوفة عن العودة إلى البيت، رافضة مغادرة النسيم العليل والغسق الذي يتداعب فيه الليل والنهار برقة وحنو.

سونيوشا، سأكتب لك قريباً. كوني مطمئنة البال، كل شيء سيصبح على ما يرام وسأكون بخير، كارل كذلك. أودعك حتى الرسالة المقبلة.

مع حبي،

روزا

ڤرونكه، 2 أيار ١٩١٧

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شاعر ألماني

(2) مؤلف موسيقي نمساوي

(3) عالم نبات تشيكي

موقع مجلة (بدايات) – العدد 22 – 2019