التراكم البدائي (الأولي) لرأس المال (primitive accumulation of capital)
نشأت الرأسمالية في أوربا الغربية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وقامت على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وباستغلال العمل الأجير، واستخلاص فائض القيمة هو القانون الاساسي للإنتاج الرأسمالي. ينعكس التناقض الاساسي في الرأسمالية بين الطبيعة الاجتماعية للعمل والشكل الرأسمالي الخاص للتملك، في التناقض بين الطبقتين الأساسيتين في المجتمع، البرجوازية والبروليتاريا.
والتراكم البدائي لراس المال هو عملية تاريخية فصلت صغار المنتجين عن وسائل الانتاج، فصلا اكراهيا، شاملا، وتجميع هذه الوسائل في ايدي الرأسماليين. وشهدت المرحلة الاولى لنشوء الرأسمالية ما يسمى بعملية (التراكم البدائي لرأس المال) والتي عاشتها أوربا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهي العملية التي تم فيها نزع وسائل الإنتاج الاجتماعي (الأرض والادوات.. الخ) عن جماهير المنتجين السلعيين الصغار، وتحويلها الى أيدي الرأسماليين. ووصفت هذه العملية بالبدائية Primitive، بسبب ما رافقها من اعمال الاغتصاب والعنف، وتميزا لها عن التراكم الحديث (تجديد الانتاج الموسع)، واخيرا لأنها سبقت ظهور الإنتاج الرأسمالي الكبير.
لقد ظهرت اكثر صور تراكم الرأسمال البدائي كلاسيكية في إنكلترا، حيث إستولى اللوردات على اراضي الفلاحين المشاعية، وطردوهم منها. وقد حوّل الاقطاعيون الاراضي المغتصبة من الفلاحين الى مراع للأغنام، وأجّروها من اصحاب المزارع الذين مارسوا الانتاج الزراعي على أساس رأسمالي. ولجأت البرجوازية الوليدة الى وسائل عديدة لإغتصاب الأراضي: كالإستيلاء الإحتيالي على اراضي الدولة، ونهب املاك الكنيسة. وتحولت جماهير الناس المحرومين من وسائل المعيشة الى متسولين، ومتشردين، وقطاع طرق. وسنّت سلطة الدولة قوانين ضد الذين صودرت اراضيهم، وسميت بـ “ التشريعات الدموية “. وعن طريق التعذيب، والجلد بالسياط، والختم بالحديد الساخن، عززت الدولة نظام العمل المأجور، ودفعت الفقراء الى العمل في المؤسسات الرأسمالية عنوة، وقلصت مبالغ الاجور، وأطالت يوم العمل. وقد رافق خراب صغار المنتجين، وتحولهم الى عمال اجراء “احرار” تراكم ثروة كبار المالكين الذين تحولوا الى رأسماليين.
وكانت عملية التراكم البدائي لرأس المال نقطة الإنطلاق في نشوء اسلوب الانتاج الرأسمالي، وظهور مالكي وسائل الانتاج، من جهة، والعمال الأجراء البائعين لقوة عملهم، والمحرومين من وسائل الانتاج والاحرار، حقوقيا، من جهة ثانية. إن عملية فصل صغار المنتجين، والفلاحين، بشكل خاص، عن وسائل انتاجهم، فصلا اكراهيا ( كالأرض، وأدوات الأنتاج) هي بمثابة عشية الرأسمالية، وتدل على ان الرأسمال لم يظهر كنتيجة لتقتير فئة ما من الناس، كما يزعم الاقتصاديون البرجوازيون. إن التاريخ الفعلي يبين ان ظهور الرأسمالية كان ثمرة عمليات إقتصادية فعلية كانت تحدث في أحشاء المجتمع (كالمنافسة، وخراب صغار منتجي السلع)، وقد تسارع هذا الظهور عن طريق إستخدام أشرس صور العنف والنهب.
وحسب ماركس فان “التراكم المسمى بدائيا ما هو الا العملية التاريخية للانفصال بين المنتج ووسائل الانتاج. ويظهر [بدائيأ] لأنه يكون ما قبل رأس المال، ونمط الانتاج المتفق عليه”. ولكن ما ان تكتمل عملية انفصال المنتجين عن وسائل الإنتاج حتى يعمد نمط الإنتاج الرأسمالي الى تجديدها، ذلك لأن رأس المال يستحيل بدون عمال محرومين من وسائل الإنتاج ومرغمين على بيع قوة عملهم.
ان مصادر التراكم البدائي عديدة ومن بينها:
عملية التسييج، وجوهر هذه العملية تجريد الفلاحين من املاكهم المشاعة وتحويلها الى ملكية عدد ضئيل من كبار ملاكي الارض، وذلك بمختلف وسائل العنف، بما في ذلك القوانين التعسفية. لقد بدأت العملية في انكلترا منذ اواخر القرن الخامس عشر. والخلاصة ان جوهر عملية التسييج هو تحويل الملكية الاقطاعية للأرض الى ملكية راسمالية من جهة، وتحويل الفلاحين المستقلين الى عمال احرار (أجراء) منزوعين من وسائل الانتاج وتأجير انفسهم للرأسماليين. ولا بد من الإشارة هنا الى الدور الفاعل للدولة في عمليات التراكم الأولي لرأس المال، حيث اقترنت عملية التجريد من الملكية بتشريعات تحدد الأجور، وتمنع العلاوات، وتحرم حق تكوين الجمعيات.
التجارة بالنقود (الربا) طيلة القرون الوسطى، مما كدس ثروات ضخمة لدى المرابين أتاحت لهم فيما بعد المشاركة في انشاء المؤسسات الراسمالية المختلفة.
نهب السكان الاصليين للمستعمرات، وقد رافق عمليات النهب هذه إبادة السكان الاصليين والقضاء على حضاراتهم، وقد جلب الفاتحون ثروات لا تحصى نمت سريعا فيما بعد بفضل استثمار مناجم الذهب والفضة الغنية. فمثلا تقدر كمية الفضة التي نهبها الأوربيون من دول امريكا اللاتينية خلال مرحلة الكشوف الجغرافية والرأسمالية التجارية بحوالي 8272 مليون مارك فضي، كما تشير التقديرات الى أن 60% (حوالي 6 ميارات مارك ذهبي) من كميات الذهب التي كانت تملكها اوربا آنذاك قد انسابت إليها من المستعمرات الجديدة وراء البحار من خلال عمليات النهب الشديد لهذا المعدن النفيس.
التجارة بالرقيق، وخاصة بزنوج افريقيا، وكان الدافع الاقتصادي الأول لهذه التجارة هو ندرة اليد العاملة في مزارع القطن الأمريكية.
وقد كانت تجارة الرقيق من اجزل التجارات ربحا، ولكنها بالمقابل قضت على القوة البشرية المنتجة في القارة السوداء واخّرتها عن ركب الحضارة الانسانية طيلة قرون. وتشير بعض المراجع، أن الافراغ البشري الذي حدث لأفريقية خلال هذه الفترة كان يقدر بعدد يتراوح ما بين 60 و 100 مليون مواطن افريقي. وكان هؤلاء يباعون في الاسواق التي اشتهرت بتلك التجارة على موانئ القارة الامريكية. ولا بد من الاشارة الى ان المغانم الضخمة التي تحققت من حركة الكشوف الجغرافية والتوسع الكولونيالي، كانت سببا في ان يشتد الصراع بين الدول الاوربية المتنافسة للوصول الى ثروات البلدان المكتشفة ونهب خيراتها.
التجارة مع المستعمرات، وقد كانت هذه التجارة مبنية على العنف المباشر والضغط والغش والتدليس، كما كانت ذات طبيعة احتكارية صرفة. وقد لعبت التجارة مع المستعمرات الدور الاساسي في اعاقة التطور الاقتصادي لاغلب بلدان العالم، لحساب تجميع الرأسمال اللازم لتطوير الرأسمالية الاوربية.
ولا بد من الاشارة هنا الى المنهجية التي اتبعتها الرأسمالية الأوروبية، والتي قادت إلى ظهور الطبقة العاملة بشكلها الحالي في دول “الأطراف” في مرحلة الاستعمار الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، اعتمدت بصورة رئيسية على التفكيك الخارجي لعلاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية، والإحلال القسري لعلاقات اقتصادية جديدة عمادها الملكية الخاصة والاحتكار والمضاربة، والاستثمار المفتوح أمام الشركات لاحقاً. فمثلاً يجدر الذكر هنا محاولة نابليون في عام 1798 الذي سقطت فيه القاهرة على يد جيوشه، العمل على تفكيك أنماط الإنتاج البدائية في مصر بقوة السلاح، ومن بعده الإمبراطورية البريطانية مترامية الأطراف، والتي حاولت تفكيك “نمط الإنتاج الآسيوي” (الذي ساد في القرن التاسع عشر في مصر على وجه التحديد)، بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها قوات محمد علي عام 1840 وعام 1841 لتنتهي بتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة حينها !.
هذا وقد ساعد التراكم البدائي لرأس المال على ظهور أصحاب المزارع الرأسماليين.
ملخص القول، ان تراكم الرأسمال البدائي إنما تم نتيجة افقار ونهب، جماهير المنتجين، داخل البلدان الرأسمالية وخارجها أي في المستعمرات، مما مهد الطريق لتحقيق الشرطين الأساسيين اللذين كانت تستلزمهما المؤسسات الرأسمالية الكبرى، أي شرط تراكم الرأسمال من جهة، وشرط توفر العمال الاجراء من جهة أخرى.