الديوانية هي واحدة من معاقل الشيوعيين، حالها حال أكثر مدن الفرات الأوسط والجنوب التي انتشرت فيها الأفكار الشيوعية، ووضعت اللبنات الأولى لتأسيس أعرق حزب في تاريخ العراق، وتبرز أهمية مدينة الديوانية هي قيادة التنظيم من قبل الشهيد سلام عادل الذي كان يعمل «أوتچي « في محلة الجديدة بعد فصله من التعليم ليحل ضيفًا على المدينة ويقود محليّتها، وكان يعمل معه نخبة من المعلمين والعمال والكسبة، منهم الشهيد محمد الخضري، عبد الله حلواص، جواد الاوتچي، المعلم زغير كاظم، موسى سوادي، وهادي شاكر و المعلم ميس وآخرون.
ومن أجل معرفة تفاصيل أكثر كان عليّ ان التقي بمن بقي يحمل تلك الرسالة والذكريات التي حملوها أينما ذهبوا، استقلينا السيارة وانطلقنا وسط شوارع مدينة الديوانية، طرق مهترئة يملأها الطين والحفر، ومبادرة من سعد وأبو لينا وهو من المدرسين المخضرمين في المدينة، ان نزور رفاقا قدماء أفنوا عمرهم وحياتهم في صفوف الحزب، وحتى احيانا هناك من يصنّفهم شقاوات او أبطال الديوانية، لما يمتلكون من جرأة وصلابة، ومبدئية في العمل الحزبي. الزيارة الاولى كانت لبيت هادي شاكر أبو(إيديه)، توقفنا في بداية الشارع لنستدل على صاحبنا، سأل أبو لينا أحد الشباب الواقف في ركن الشارع، عمي تعرف واحد اسمه هادي شاكر؟ اجابه فوراً تقصد هادي أبو إيديه أجابه أبو لينا مسرعاً، إي إي رحم الله والديك، هادي أبو إيديه، أشار لنا الشاب إلى البيت الذي يسكن فيه وهو على بعد خطوات.
توقفنا أمام باب هادي، فتح لنا الباب بوجه بشوش تملأه التجاعيد وخطوط رسمها الزمن. عمره يكاد يتجاوز الثمانين، يلف يشماغ على رقبته، قال له سعد مبادراً هل تعرفني آني سعد ابن استاذ زغير، صاح اوووو شلون ما أعرفك، أبوك من الشيوعيين القدامى وكان معلما خرّج أجيالا بالديوانية.
بعد الحديث والأخذ والرد، ولقاء لم يخطط له، سألته مازحه لماذا يلقبونك هادي أبو إيديه؟
أجاب ضاحكاً هاي قصة قديمة وطويلة، حدثت من زمان، قطعوا يدي بعد اصابتها بطلقة نارية من قبل الشرطة، أثناء مشاركتي في التظاهرات عام ١٩٥٢ التي قام بها طلبة الديوانية، وكان عمري وقتها لا يتجاوز الـ ١٤ سنة، نظرت ليده التي تم بترها، وقلت ستبقى يدك شاهدا على قسوة النظام وشراسته، ولتثبت موقفك الوطني وثباته الذي لم يتزعزع.
ويضيف هادي تم قمع التظاهرات بقسوة وقتل عدد من الطلبة، وجرح المئات منهم، وكان طلبة الجامعات والمعاهد يحملون شعارات وطنية منها إقامة نظام جمهوري، وتأميم النفط، وأضاف ضاحكا انا كنت أحد المجروحين ولا زلت صغيراً، وأردف قائلا، اتذكر وقتها حصلت على تعويض من الحكومة ٢٠٠ دينار عن قطع يدي.
إنه هادي شاكر عبد الله الملقّب بأبو إيديه، مواليد ١٩٤١ في محلة الجدَيْده في الديوانية، كان يعمل موظفا في بلدية الديوانية.
بادرته بسؤال شوكت انتميت للحزب ؟، أجاب بزهو من زمان انتميت، من صغري وعلى ما اعتقد بسنة ١٩٥٨، وأضاف ضاحكاً هناك من يصفني أنني من شقاوات الديوانية في ذلك الوقت، اتذكر في عام ١٩٦٢ دخلت السجن لأن طلبوا مني أسب الملا مصطفى البارزاني ورفضت وعلى إثرها تم حبسي.
أثناء حديثه سألته مع من تعيش وهل تتواصل مع الحزب؟، أجاب بابتسامه آني ما عندي لا بيت ولا عائلة، ولا فلوس هذّني كلهن ما عندي أعيش مع ابنة اختي، وآني على تواصل مع منظمة الحزب الشيوعي في الديوانية، واحضر كل فعاليات الحزب وجميع المناسبات، وختم قوله نحن دائماً ننظر إلى الأمام، ونؤمن بالتطور، والانسان من يخلق التطور، اتمنى ان يكون الحزب بخير دائما، ونحن مقبلون على الاحتفال به في عيده التسعين، أدعو له ان يبقى شامخاً دائماً بأبنائه وبناته.
وعلى مسافة ليست بالبعيدة، انتقلنا إلى بيت المناضل الطلابي المخضرم، كريم جاسم حمادي (يطلقون عليه الليث الأبيض) وهو من مواليد ١٩٤٨ ناحية غماس - الديوانية والذي يعرفه اهالي الديوانية كرياضي مشهور ومعروف، لاعب كرة قدم وسلّة، وحامي هدف نادي الديوانية آنذاك خريج معهد الزراعة- جامعة بغداد.
عند النظر إلى شخصية كريم وحركات جسمه الرياضية، تيقّنت انه فعلاً كان من شقاوات الديوانية، يقول عملت في عدة من المؤسسات الزراعية، وانتميت إلى اتحاد الطلبة العام واصبحت عضوا في اللجنة التنفيذية عام ١٩٦٥.
سألته ماهي مهامك في تلك الفترة؟ أجاب بثقة، كنت عضو اللجنة التنفيذية ومن المساهمين بإعادة بناء أتحاد الطلبة العام في الديوانية، وبالطبع لم أكن وحدي بل مع من زملاء في الاتحاد أذكر منهم مؤيد كريم، وعماد كريم، سعد زغير كاظم، بدر كاظم الجبوري، مازن غريب والراحل يوسف طه وغيرهم من الطلبة المؤمنين بأهداف الاتحاد والعمل من أجل حياة طلابيّة ناجحة …
عن تاريخه النضالي أو الحزبي، يقول كريم انتميت إلى الحزب مبكر، وعن طريقي تم ترشيح العديد من الرفاق لصفوف الحزب، منهم من أصبح قيادياً، كما كنت أقود عددا كبيرا منهم، وواحد منهم يجلس أمامي الآن، ويقصد سعد زغير.
تم اعتقالي في بداية السبعينيات، وتم التحقيق معي، الضابط الذي حقق معي، وجه لي كلمات نابيه، قلت له آني ابن الفرات والجنوب واللّي اعرفه المفروض بموظف الدولة يكون محترم، انت منين جاي؟
بدوره سأل الضابط أحد الواقفين من الشرطة، هذا وين أهله؟ أجابه فوراً سيدي هذا من غمّاس، رد الضابط اگول منين جايب هاي الحسچه!
في السبعينيات ذهبت ومجموعة إلى دورة زراعية إلى موسكو حول التعاونيات الزراعية، وعودتنا كانت عن طريق شمال العراق، وكانت تدور في المنطقة صراعات بين الاحزاب، حينها حدثت مجزرة حقيقية لنا من قبل المجرم عيسى سوار، قام بقتل قسم كبير من المجموعة أغلبهم طلبة عائدين من دورات حزبية في موسكو، وكنت ضمن المجموعة التي راح ضحيتها عدد من الطلبة العائدين، وفي وقتها طالب الحزب بمحاسبة الجناة.
يتذكر كريم في أحد المرات وفي مناسبة عيد الحزب، وضع عامداً « صم چكليت» في جيب المدعو نوفل حميد أحد اعضاء الاتحاد الوطني، وكان رياضيا ايضاً نلعب معاً، وفيها كتب شعارات اتحاد الطلبة العام، وشعارات الحزب الشيوعي، واضاف ضاحكاً في يومها يمكن وزّعت ٢٠٠٠ چكليته أنا وزميلي شاكر حاتم الدعمي.
وعند سؤاله حول مشاركاته في الانتفاضات او الوثبات، أجاب إنني من ثوار الأهوار كنت حلقة وصل بيني وبينهم، كنت أنقل الرسائل لهم، واساعد وعوائلهم في التنقّل.
أم هاله زوجة كريم كانت تجلس إلى يميني، قلت لها مازحة أين أنت من هذا التاريخ أكيد نالك منه شيء؟
أم هاله بكالوريوس زراعة، تقول من الأمور التي واجهتني عام ١٩٧٥، أنني حصلت على سفرة مجانية إلى ايطاليا عن طريق احدى الصديقات التي كانت تعمل مضيّفة بالمطار، وكان في وقتها يعطوهم سفرات مجانية، لم أكن امتلك جواز سفر في وقتها، فذهبت إلى الدائرة من أجل الحصول على جواز، فاجأني ضابط الأمن بالقول»الله جابچ « إحنه ننتظرچ، من شروط السفرة نريد منچ تقرير كامل عن الشيوعيين وتجمعاتهم في إيطاليا!
في وقتها كنت فقط أريد الخروج من الدائرة، تركت السفرة وطموحي بالسفر.
المرة الثانية تم اعتقالي أيضاً من قبل أمن الديوانية، وكنت حاملا بابنتي ساره، عند دخولي إلى مديرية الأمن دفعني أحد ضباط الأمن المجرمين واسمه «محمد عباس» من أهالي طويريج، دفعني بقوة فسقطت على الأرض، ولم اعلم ان أخي جواد كان معتقلا عندهم وجعلوه يشاهدني، كان الضابط يحقق معي وينظّف بمسدّسه كنوع من التخويف والترهيب، وقد كانت لديه معلومات عني بعدها علمت أن اعتقالي تم لتهديد أخي! وكذلك من أجل التوقيع على المادة ٢٠٠ التي تقيّد وتمنع اي نشاط سياسي مرة اخرى!
وأضافت أم هاله، واصلنا المسيرة أنا وأبو هاله، وبعد سقوط النظام عملت مع رابطة المرأة العراقية في الديوانية، وأجد نفسي في العمل مع النساء وتقديم المساعدة لهنّ، ولا زلنا مواظبين بالحضور في فعاليات الحزب التي تقام هنا في الديوانية وخاصةً في عيد ميلاد الحزب.
وعند ختام زيارتنا للديوانية كان لابد لي ان أذكر العزيز مهند مجيد أبو لينا الذي استضافنا في بيته وأم لينا الطيبة المعشر وهم من الكوادر التعليمية التي لعبت دورا كبير في تعليم أجيال من الطلبة. ليتحدث عن سيرته وعمله الطلابي والحزبي، يقول، كنت أصغر من الرفاق والشخصيات الديوانية التي قابلتيهم، مواليد ١٩٥٦، في بداية عملي السياسي انتميت إلى اتحاد الطلبة العام عام ١٩٧٢، عملت مع مجموعة طلابية واعية ونشطة، أذكر منهم هاشم نعمه، بشير لعيبي شنان، بدر كاظم الجبوري، باسم محمد نزال، يوسف محمد طه، مؤيد كريم، فيصل سلمان بعيوي، وجواد النجار، وآخرين.
ويضيف أبو لينا كان عملنا الطلابي صعب في وقتها لأننا كنا نخوض نضالا وصراعا مع أزلام السلطة، ويتذكر زملاؤنا الطلبة ما تعرضنا له من عنف متواصل، ومع ذلك استمر العمل والحركة في أوجه ونشاطه، يملأنا الشعور الوطني والمهني، المتنامي عند الشباب، كنا نفخر بإقامة فعالياتنا ونشاطاتنا الفنية والفكرية بالرغم من الطغيان.
أما عن انتمائه الحزبي، يذكر أبو لينا انه انتمى للحزب عام ١٩٧٣- ١٩٧٤، وعمل مع شبيبة شيوعية هم من خيرة ابناء الديوانية أذكر منهم، حميد حران، د محمد الربيعي، يوسف عبد السماوي، ثامر أمين وآخرين.
كما عملت في التدريس، والآن أنا عضو في الهيئة الادارية لنقابة المعلمين، وعضو في مجلس السلم والتضامن في الديوانية لسنوات.
وفي ختام حديثه قدّم أجمل معاني التقدير، لرفيقاتنا ورفاقنا الأوفياء، بذكرى ميلاد حزبنا التسعين، والتي ستظل خالدة،
يجددها التاريخ، بدماء شهدائنا من أجل وطن حر وشعب سعيد.