اخر الاخبار

نناقش هنا قضية هامة تتعلق بالصلة المتبادلة بين الدولة باعتبارها جزءا من البناء الفوقي وبين القاعدة الاقتصادية التي تستند عليها. ان السبب في ذلك يكمن في حقيقة أنه ولأجل فهم الجوهر الطبقي للدولة، من الضروري ايلاء اهمية خاصة لصلة الدولة بالعلاقات الاقتصادية، بعلاقات الانتاج. وهذه الصلة تتجلى، قبل كل شيء، في كون الدولة توجد وتتطور في اطار تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة، فان هذه التشكيلة تحدد أهم سماتها، جميع سماتها الجوهرية. ان صلة الدولة بالعلاقات الاقتصادية، بعلاقات الانتاج تتجلى في كونها - أي الدولة- تبرز بوصفها المنظمة السياسية لمالكي وسائل الانتاج الأساسية. ان الدولة كما هو معروف هي أهم قسم في البناء الفوقي القائم على البناء التحتي الاقتصادي. وهي تتوقف، في آخر المطاف، على بنائها التحتي وتتحدد به. لكن الدولة في نفس الوقت قوة نشيطة تفعل فعلها سواء في البناء التحتي، او في سائر اقسام البناء الفوقي الاخرى. وفي هذا الصدد اكد (لينين) على ان “الدولة ليست في أي حال من الاحوال شيئا جامدا، فهي دائما تفعل فعلها.. ببالغ الهمة والعزيمة، ودائما بصورة فعالة، ولا تفعل فعلها بصورة سلبية “.

ان الحياة الاقتصادية هي القاعدة الفعلية والتناقضية للحياة الاجتماعية، التي ترتفع فوقها وعلى أساسها بنية سياسية قانونية (خاصة الدولة) مكلفة بالابقاء على صراعات وتناقضات الحياة الاجتماعية وليس تقليصها بل ضبطها. ولا يقتصر هذا الكشف عن طبيعة الدولة الفعلي على التذكير الموجز بل يساعد على استيعاب مفهوم الدولة عند ماركس وهو ثمرة عمل فكري طويل. ومن الجدير بالذكر إن العلاقة بين البناء التحتي والبناء الفوقي هي اساسا علاقة دينامية لا علاقة ساكنة، علاقة بين جانبين لا ينفصلان لمجموع العملية الانتاجية ويتطور أحدهما على اساس الآخر ويؤدي وظيفة اجتماعية تتعلق به. لماذا يحدث ذلك؟ يحدث لأن حركة الصراع الطبقي هي الحركة الموحِدة لتطور البنية الاجتماعية. غير ان هذه الحركة لا تتم بشكل منفلت يجعلها خاضعة لمجرد ارادة الطبقات الاجتماعية المتصارعة، بل إنها تتم داخل الاطار البنيوي الذي يحدده التناقض الاقتصادي الاساسي في البنية الاجتماعية. ان الاطار البنيوي لهذه الحركة ليس في بنية التناقض الاقتصادي وحدها، بل في بنية البناء الاجتماعي بكامله. معنى هذا ان الاطار الذي يحدد تطور الصراع الطبقي ليس البناء التحتي وحده، بل البناء الفوقي ايضا، او بدرجة اكثر دقة، علاقة التعقد المتبادلة (الجدلية) بين هذين التركيبين في البنية الاجتماعية الشاملة (مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الاشتراكي، ص 88). ان هذا التشخيص هو رد على الافكار الشائعة التي تعالج تطور البناء الفوقي فوق اساسه الاقتصادي، بنيته التحتية كعملية آلية. ولكن الافكار والمؤسسات ليست نتاجا آليا لبناء تحتي اقتصادي وطبقي معين بل هي نتاج نشاط الناس الواعي وصراعاتهم. ولكي نستطيع تفسير البناء الفوقي وموقعه المحدد لا بد ان نقوم بدراسة هذا النشاط والصراع دراسة محددة في تطورها الفعلي المركب. من هنا ليس صحيحا من الناحية المنهجية، بحسب موريس كونفورت في عمله (مدخل الى المادية الجدلية ، ص 268 ) ان نحاول الاستنتاج من وصف ظروف اقتصادية معينة ماذا سيكون عليه البناء الفوقي القائم على هذا الاساس، أو ان نستنبط  كل خاصية تفصيلية للتركيب العلوي من سمات للأساس الاقتصادي لا تتوافق معها.

ولأهمية هذه القضية سنعالجها بشيء من التفصيل.

ينشأ البناء الفوقي ويتوضع على اساس بناء تحتي معين ويتحدد به. كما انه لكل بناء فوقي بناء تحتي متميز يتناسب معه بشكل عام (طبقا لقانون التطابق الضروري بين القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي). على انه من المفيد الاشارة الى ان هذا التوافق بين البنائين يجب ان لا يفهم كتوافق مطلق وكامل، بل انه قابل للحركة والتغيير بحكم العلاقة الجدلية بين البناءين. كما ان هذا التوافق بين البناءين تحدده في النهاية ارتباطات القوى المنتجة بعلاقات الانتاج، أي جدل العلاقة بينهما. التوافق هنا لا يعني التماثل او غياب التناقض، بل أن التناقض قائم بالضرورة، سواء بين البناءين، او بين طرفي البناء التحتي في البنية الاجتماعية. لقد اشار (ماركس) الى انه ومع تغيير القاعدة الاقتصادية “يجري بسرعة، تزيد او تنقص، انقلاب كامل في البناء الفوقي العريض”. وهذا يعني ان التغيير في البناء الفوقي يأتي متأخرا بعض الشيء مقارنة بتغييرات البناء التحتي. ولكن متى حل هذا التغيير فان البناء الفوقي لا يبقى سلبيا، بل انه يمارس دورا يخدم مصالح الطبقة المسيطرة او الائتلاف الطبقي المهيمن في البنية التحتية (المسيطر اقتصاديا).

وأخيرا، فان توضيح التاثير العكسي للبناء الفوقي على البناء التحتي وفهم دوره الفعال، يكتسب أهمية خاصة في مجال التعامل بين البناءين. وفي هذا الصدد فان رسائل أنجلس  تحتل اهمية اساسية وتتمثل الفكرة الرئيسية التي تجمع بين هذه الرسائل في التأكيد على الدور الفعال للبناء الفوقي، اذ يؤكد (أنجلس) على ان الجانب الاقتصادي لا يكون حاسما إلا في المحصلة النهائية (في نهاية المطاف)، وان عناصر البناء الفوقي تؤثر على سير الصراع التاريخي، وفي حالات عديدة تحدد شكل هذا الصراع. ان هذا التشخيص هو رد على التفسير المبتذل للماركسية وكأنها تقول ان كل فكرة ومؤسسة في المجتمع تنتج مباشرة من احتياج اقتصادي مباشر وتخدمه. ان هذه ليست ماركسية، انها جبرية اقتصادية تريد تجريد الماركسية من طابعها المادي وروحها الجدلية.ان ماركس في حديثه عن هؤلاء المبتذلين كان يقول دوما “ان كل ما اعرفه هو انني لست ماركسيا”. ان هؤلاء المبتذلين وتفسيراتهم للماركسية يتناسون ان المادية التاريخية تشير الى ان العنصر النهائي المحدد للتاريخ هو انتاج واعادة انتاج الحياة المادية. ولم يؤكد لا ماركس ولا (أنجلس) اكثر من ذلك. ومن هنا فاذا ما قام أحدهم بلوي هذا القول ليعني به ان العنصر الاقتصادي هو العنصر المحدد الوحيد فانه يحول هذه القضية الى عبارة حمقاء مجردة لا معنى لها، اطلاقا. وفي هذا الخصوص كتب (أنجلس) قائلا: “ليست المسالة على هذا النحو اطلاقا، أي ليس العامل الاقتصادي وحده السبب الفعال، وباقي العوامل مجرد نتيجة سلبية، كلا... ان المهم هنا هو التفاعل القائم على اساس الضرورة الاقتصادية التي تشق الطريق لنفسها دائما في نهاية المطاف “.

من المفيد التذكير بان بعض الكتاب يشيرون الى استقلالية البناء الفوقي متناسين ان هناك علاقة وطيدة بين القاعدة والبناء الفوقي. وهم بمقاربتهم هذه يعبرون عن قصور في فهم مقولات المادية التاريخية، التي تعتبر مقولة “القاعدة – البناء الفوقي” احدى مقولاتها الاساسية، وان هذه المقولة تعبر عن الوحدة الجدلية لعنصريها، أي ان أحدهما يؤثر على الآخر. ويشهد التاريخ ان هناك ازمنة يعتقد فيها بعض القادة – من موقع السلطة – ان ارادتهم ورغباتهم الشخصية، أو رغبات أولئك الذين يحيطون بهم، يمكن ان تقرر كل شيء، وتتخطى كل العقبات، وان تتحرر من القوانين الموضوعية، متناسين العوامل المقررة التي يخضع لها البناء الفوقي. انهم يمضون في الحقيقة مثل المتآمرين، يحتاجون في كل خطوة الى ان يجدوا كبش فداء، يمكن تقديمه للرد على التعارض بين خططهم والامكانيات الفعلية. ان هذا يعني ان التطور التاريخي لا يتحدد بالرغبات الشخصية للشخصيات الجالسة على قمم السلطة وانما بحركة الطبقات وصراعاتها وتناقضاتها وطرق حلها. ان الرجال البارزين او قادة طبقة ما يؤثرون على مصائرها بحكم اعمالهم او حماقاتهم، ولكنهم لا يصنعون طبقة، والقائد التاريخي انما يستمد مكانته وقوته من طبقة ما، وما لم يتمتع بتأييدها – إذ أنه يمثل مصالحها واتجاهاتها – فانه سيكون عاجزا ولا يستطيع ان يمارس تاثيرا حاسما. ولهذا يمكن القول ان الاهمية العملية لمسالة البناء الفوقي والبناء التحتي تكمن في ان حل هذه المسالة يساعد على التقييم الصحيح لدور البناء الفوقي في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

عرض مقالات: