قبور الأديبات والأدباء مفتوحة وجاهزة في العالم العربي، ومقابر جماعية في كل المدن والقرى، ودفن بالجملة ومن دون دمع أو أسف.

يحدث هذا في بلداننا العربية والمغاربية كلها من دون استثناء، ففي كل يوم نمشي في جنازة مشروع هيمنغوي صغير أو فرانسواز ساغان قادمة أو نازك الملائكة أخرى أو نزار قباني جديد.

ونصلي عليهم صلاة الغائب ثم ننفض أيدينا ونعود لنشرب القهوة المرة أو الشاي الأخضر أو الأحمر أو الأسود، ونتفرج على فيلم بالأسود والأبيض ونمضي إلى مشاغل يومياتنا العادية وننتظر جنازة أخرى.

وفي هذا العالم المتنوع الذي يمتد من البصرة إلى نواكشط مروراً بدمشق والقاهرة وعنابة ووهران وطنجة في كل يوم، وبأعصاب باردة نطلق النار على مشروع روائي أو شاعر أو موسيقي أو مسرحي أو فنان تشكيلي نيراناً صديقة أو أخوية أو أبوية لكنها قاتلة وعمياء.

يموتون بالجملة والمفرد بين أيدينا ولا أحد يكترث تحت أعيننا ولا أحد يرثي أو يبكي أو يتساءل أو يتأسف.

مقابرنا كثيرة وأموات ينسوننا أمواتاً آخرين.

مدارسنا مقابر للمواهب.

جامعاتنا مقابر للمواهب.

زيجات الزواج مقابر للمواهب.

أحزابنا مقابر للمواهب.

وفي كل ركن قبر أو مشروع مقبرة أو مشروع قاتل أو مشروع قتيل.

وفي بلداننا على الأرضية نفسها تشيد مقابر الأحلام قبل أن تبنى مدارس للمعرفة، يفكر مجتمعنا في حفار القبور قبل التفكير في زارعي الحياة ومعلم العلم.

كثيراً جداً نفكر في بؤس الموت ولا نفكر في بهجة الحياة.

في مدارسنا على اختلاف تسمياتها عامة أو خاصة على اختلاف اللغة الأجنبية التي تدرسها من الخليج إلى المحيط، عرب وبربر وأكراد وقوميات أخرى، سنة وشيعة ودروز وآشوريون وإيزيديون ومسيحيو العرب بكل طوائفهم وغيرهم، يلتحق الطفل بالمدرسة، أنثى أو ذكر لا يهم، يحمل في محفظته حلمه الحريري، حلم أن يكون كاتباً كبيراً يشبه أولئك الكتاب الذين يقرأ أناشيدهم في المقررات المدرسية، سليمان العيسى وممدوح عدوان وجبران خليل جبران وسعيد عقل ونجيب محفوظ  ومالارميه وألفريد دو موسيه وإلسا ترييوليه ومحمد ديب ومولود فرعون وفكتور هوغو وغيرهم، يحلم التلميذ أو التلميذة أن يصبح مثل أبطال القصص التي يقرأها كـ «السندباد البحري» أو كـ «سيف بن ذي يزن» أو «جميلة بوحيرد» أو «لالة فاطمة نسومر»، لكن للمدرسة التي يجلس في فصل من فصولها آذان صماء لا تسمع ولا تلتفت لأصوات الصغار الذين في أحضانها وبين جدرانها، تمر السنة الأولى والثانية والخامسة فييبس الورد ويذبل الحلم، ويغادر عصفور الحلم رأس الطفل أو الطفلة، ويضيع في اليومي البارد وفي الدرس الأخرس، ويموت الشاعر الحلم في رأس الطفل أو الطفلة ويسقط جثة هامدة.

تقام الجنازة الأولى فتدفن العشرات من المواهب في مقبرة المدرسة الابتدائية الجماعية، ويموت الشعراء والشواعر والموسيقيات والموسيقيون والممثلات والممثلون والراقصات والراقصون، يموتون وهو يتكلمون، يدفنون وهم يتكلمون، يموتون وهم يحلمون.

ثم ينتقل بعض الناجين من الموت الأول، موت المرحلة الابتدائية، إلى مرحلة التعليم المتوسطة، ويكبر الموت بسنوات وتصبح له عينان كبيرتان لا يغمض لهما جفن، للموت عمر يتماهى وأعمار البشر، لكل عمر حي موت بعمره، في مثل هذه المرحلة يفكر المراهق في حلق زغب شواربه، والفتاة في تجريب تمرير أصبع الماكياج (ليب ستيك) على شفتيها، يبدأ الموت العربي في ملاحقة هذا التحدي، فيحلق هو الآخر شواربه ويلبس الكعب العالي ويدخن سيجارة ويتربص بالمواهب في المتوسطة، مع زغب الشوارب والماكياج الخفي تكبر أحلام في الرأس، حلم تجريب الكتابة في الشعر والخاطرة والسرد ونصوص المراسلات لكن عيون الموت لا تنام، وصمت المربين قاتل.

في هذه المرحلة يسقط شهداء الكتابة أيضاً تحت رصاص الإهمال والجهل والاستخفاف بالمواهب التي تقمع من كل الجهات، ويحفر المعلمون والإداريون مقبرة جماعية للموهوبين في قلب ساحة المتوسطة ويردمون فيها، وتغادر شياطين الشعر المؤسسة التعليمية.

ويحصل أن ينسى الموت أو يخطئ موهبة ما في مرحلة المتوسطة، موهبة تسقط من شباك الموت وتنتقل على رؤوس أصابعها إلى مرحلة الثانوية حاملة ثقل شقاء حلمها بأن تكون شاعرة أو روائية أو مسرحية أو موسيقية، أديبة أو فنانة، وفي هذه المرحلة، لا تنام عين الرقيب نهائياً، تصحو الليل والنهار والمواسم الأربعة، فالفتاة أشرفت على اكتمال الجسد، وعلامات الأنوثة برزت، دم ونهد ورغبات، والجسد لعنة ووصمة وضريبة كبرى، والشاب قد أصبح مشروع رجل الغد، فيهجم أصحاب المواعظ على المواهب، فتقتل بالبارد، وتبدأ سيادة أيديولوجيا التحليل والتحريم، وثنائية يجوز ولا يجوز تستعمر الخطاب وتحاصر حرية الفن والأدب.

وكما في المرحلة الابتدائية والمتوسطة يحفر أساتذة التعليم الثانوي مقبرة للتلاميذ الموهوبين، ويدفن الآلاف في قبور جماعية من دون شاهدة ولا صلاة جنازة، وكل شيء يتم في ليل عربي ومغاربي دامس.

وفي الجامعة تتواصل بشدة محاربة المواهب واغتيالها بطرق سياسية وأيديولوجية ودينية، جبهات المعارك ضد مشاريع الشعراء والفنانين كثيرة، وقل من يستطيع أن يخرج منها بسلام، وفي مثل هذا العمر ينسى الرقيب الوعظ الشاب قليلاً ويركز على مراقبة الفتاة الطالبة أكثر، فهي في عينه أصل الفتنة ومصدرها.

وكما في السابق تقام في الجامعة أيضاً مقابر جماعية كثيرة، ويصلي الدكاترة والبروفسورات على جثث المواهب من الطلبة صلاة العلماء الفهماء.

وفي العالم العربي مقبرة الأديبات أكبر من مقبرة الأدباء.

ومن الأديبات في العالم العربي والمغاربي، بقدرة قادر، من تنجو من الوأد المعاصر المطبق في مرحلة المدرسة الابتدائية وفي المتوسطة وفي الثانوية وفي الجامعة، تقطع كل هذه المسافة الطويلة الملغومة لتخرج سالمة وإن بجروح كثيرة، حية بحمد الله، وحلمها بأن تواصل الكتابة والإبداع تسكنها، ثم كأية فتاة، كأي إنسان، تعشق، تحب، يؤرقها الهيام بكل أسماء ومراتب الحب التي سماها العرب في قواميسهم القديمة التراثية، وتهيم الأديبة الناجية من كل المقابر والمدافن السابقة وتحب فارس أحلامها العربي أو المغاربي، لا يهم، قد يكون هو الآخر شاعراً، يكتب يوم الجمعة وبمناسبة عيد الاستقلال، وقد يكون معلماً أو طبيباً يقيم الصلوات ويحلم بالحج وبالعمرات الكثيرة، وحين يسكن بها وتسكن إليه، يخرج الشعر من الباب الكبير، ويحضر العريس حفل العرس ويدشن مقبرة الشعر، بكل استخفاف يدفن الشعر الذي كان في الزوجة ويحتفظ بالهيكل الجسدي، شيئاً فشيئاً يختفي الشعر في غسيل الأواني وفي طنجرة البطاطا وفي رائحة الثوم وتوابل طبخة الطجين وكوسا الكسكسي وحفاظات الأطفال.

بعد مقبرة المدرسة والجامعة تجد المرأة الأديبة نفسها أمام قبر مفتوح إلى جانب سرير الزوجية، قبر بخاتم الخطوبة وكفن الزواج.

تلك هي مقابر الكتاب العرب الجماعية بمراتبها موزعة في كل مكان، فلا تمشوا فوق عظام الموتى أيها الأحياء.

ــــــــــــــــــــــــ

«إندبندنت عربية» – 8 شباط 2024

عرض مقالات: