اخر الاخبار

البناء الفوقي (superstructure). يقصد بالبناء الفوقي الأفكار السياسية والإيديولوجية للمجتمع والمؤسسات الملائمة لها.

ان الحياة الاقتصادية هي القاعدة (the base) الفعلية والتناقضية للحياة الاجتماعية، التي ترتفع على أساسها بنية سياسية قانونية (خاصة الدولة) مكلفة بالابقاء على صراعات وتناقضات الحياة الاجتماعية وليس تقليصها بل ضبطها. ومن الجدير بالذكر أن العلاقة بين البناء التحتي والبناء الفوقي هي اساسا علاقة دينامية لا علاقة ساكنة، إنها أساسا علاقة بين جانبين لا ينفصلان لمجموع العملية الانتاجية ويتطور أحدهما على اساس الآخر ويؤدي وظيفة اجتماعية تتعلق به. لماذا يحدث ذلك؟ يحدث لان حركة الصراع الطبقي هي الحركة الموحِدة لتطور البنية الاجتماعية. غير أن هذه الحركة لا تتم بشكل منفلت يجعلها خاضعة لمجرد ارادة الطبقات الاجتماعية المتصارعة، بل تتم داخل الاطار البنيوي الذي يحدده التناقض الاقتصادي الاساسي في البنية الاجتماعية. إن الاطار البنيوي لهذه الحركة ليس في بنية التناقض الاقتصادي وحدها، بل في بنية البناء الاجتماعي بكامله (القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي الذي يقوم عليها). معنى هذا أن الإطار الذي يحدد تطور الصراع الطبقي ليس البناء التحتي وحده، بل البناء الفوقي ايضا، أو بدرجة اكثر دقة، علاقة التعقد بين هذين البناءين في البنية الاجتماعية الشاملة. إن هذا التشخيص هو رد على الافكار المبتذلة الشائعة التي تعالج تطور البناء الفوقي فوق أساسه الاقتصادي، بنيته التحتية كعملية آلية. ولكن الأفكار والمؤسسات ليست نتاجا أوتوماتيكيا (آليا)  لبناء تحتي اقتصادي وطبقي معين بل هي نتاج نشاط الناس الواعي وصراعاتهم. ولكي نستطيع تفسير دور البناء الفوقي لا بد أن نقوم بدراسة هذا النشاط والصراع دراسة محددة في تطورها الفعلي المركب. من هنا ليس صحيحا، منهجيا، عندما نحاول الاستنتاج من وصف ظروف اقتصادية معينة ماذا سيكون عليه البناء الفوقي القائم على هذا الأساس، أو أن نستنبط كل خاصية تفصيلية للبناء الفوقي من سمات للاساس الاقتصادي لا تتوافق معها.

 

جدل العلاقة بين القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي

ينشأ البناء الفوقي ويتوضع على أساس بناء تحتي معين ويتحدد به. كما أنه لكل بناء فوقي بناء تحتي (قاعدة اقتصادية) متميز يتناسب معه بشكل عام (طبقا لقانون التوافق الضروري بين القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي). على انه من المفيد الاشارة الى أن هذا التوافق بين البناءين يجب أن لا يفهم كتوافق مطلق وكامل، بل انه قابل للحركة والتغيير. كما ان هذا التوافق بين البناءين يحدده في النهاية التوافق البنيوي في علاقة طرفي البناء التحتي نفسه، أي علاقة القوى المنتجة بعلاقات الانتاج. التوافق هنا لا يعني التماثل او غياب التناقض، بل أن التناقض قائم بالضرورة، سواء بين البنائين، او بين طرفي البناء التحتي في البنية الاجتماعية. لقد اشار ماركس الى انه ومع تغيير القاعدة الاقتصادية «يجري بسرعة، تزيد او تنقص، انقلاب كامل في البناء الفوقي العريض». وهذا يعني ان التغيير في البناء الفوقي يأتي متأخرا بعض الشيء عن تغييرات البناء التحتي. ولكن متى حلّ هذا التغيير فان البناء الفوقي لا يبقى سلبيا، بل انه يمارس دورا يخدم مصالح الطبقة المسيطرة (أو الائتلاف الطبقي المهيمن) في البنية التحتية (المسيطرة اقتصاديا).

إن تعاقب الأشكال الفوقية واستقلالية البناء الفوقي النسبية يفسران طابع التوافق القائم بين البنائين. يتحدد البناء الفوقي بالبناء التحتي (هذا هو الارتباط الأساسي بينهما) إلا أن الأول يسير في تطور مستقل نسبيا، وبشكل اكثر دقة في خطوط مستقلة تتعلق بأشكال الوعي الاجتماعي المختلفة. إن الجزء الاساسي من البناء الفوقي يقترب بشكل مباشر من البناء التحتي ويعكس التغييرات الجارية فيه. ويمارس البناء التحتي تأثيرا حاسما على اجزاء البناء الفوقي من خلال تاثيره على الجانب السياسي منه. لماذا؟ الجواب: لأن القاعدة الاقتصادية تمثل جملة من العلاقات الانتاجية للمجتمع، أي أنها تعكس المصالح الطبقية لمختلف الطبقات والفئات والشرائح المتواجدة في البنية الاجتماعية وتعكس النزاع الدائر بينها والذي ينعكس بدوره على البناء الفوقي للمجتمع.

وأخيرا فان توضيح التاثير العكسي للبناء الفوقي على البناء التحتي وفهم الدور الفعال له، يكتسب أهمية خاصة في مجال التعامل بين البنائين. وفي هذا الصدد فان رسائل أنجلس تحتل أهمية أساسية وتمثل الفكرة الرئيسية التي تجمع بين هذه الرسائل في التأكيد على الدور الفعال للبناء الفوقي. اذ يؤكد (أنجلز) على ان الجانب الاقتصادي لا يكون حاسما إلا في المحصلة أو في نهاية المطاف، وان عناصر البناء الفوقي تؤثر على سير الصراع التاريخي، وفي حالات عديدة تحدد شكل هذا الصراع. إن هذا التشخيص هو رد على التفسير المبتذل للماركسية وكانها تقول ان كل فكرة ومؤسسة في المجتمع تنتج مباشرة من احتياج اقتصادي مباشر وتخدمه. إن هذه ليست ماركسية، انها جبرية اقتصادوية تريد تجريد الماركسية من طابعها المادي الجدلي. إن ماركس في حديثه عن هؤلاء المبتذلين كان يقول دوما «ان كل ما أعرفه هو انني لست ماركسيا». ان هؤلاء المبتذلين وتفسيراتهم للماركسية يتناسون ان المادية التاريخية تشير الى ان العنصر النهائي المحدد للتاريخ هو انتاج وتجديد انتاج الحياة المادية. ولم يؤكد لا ماركس ولا انجلز اكثر من ذلك. ومن هنا فإن قام احدهم بلي هذا القول ليعني به ان العنصر الاقتصادي هو العنصر المحدد الوحيد فانه يحول هذه القضية الى عبارة حمقاء مجردة لا معنى لها، اطلاقا. وفي هذا الخصوص كتب انجلز قائلا: «ليست المسالة على هذا النحو اطلاقا، أي ليس العامل الاقتصادي وحده السبب الفعال، وباقي العوامل مجرد نتيجة سلبية، كلا (... ) إن المهم هنا هو التفاعل القائم على اساس الضرورة الاقتصادية التي تشق الطريق لنفسها دائما في نهاية المطاف».

من المفيد التذكير بان بعض الكتاب يشيرون الى استقلالية البناء الفوقي متناسين ان هناك صلة وطيدة بين القاعدة والبناء الفوقي. وهم بفهمهم هذا يعبرون عن قصور كبير في فهم مقولات المادية التاريخية، التي تعتبر مقولة « القاعدة – البناء الفوقي « احدى مقولاتها الاساسية، وأن هذه المقولة تعبر عن الوحدة الجدلية لعنصريها، أي ان أحدهما يؤثر على الآخر. ويشهد التاريخ أن هناك أزمنة يعتقد فيها بعض القادة – من موقع السلطة – أن إرادتهم ورغباتهم الشخصية، أو رغبات أولئك الذين يحيطون بهم، يمكن ان تقرر كل شيء، وتتخطى كل العقبات، وأن تتحرر من القوانين الموضوعية، متناسين العوامل المقررة التي يخضع لها البناء الفوقي. إنهم يمضون في الحقيقة مثل المتامرين، يحتاجون في كل خطوة الى ان يجدوا كبش فداء، يمكن تقديمه للرد على التعارض بين خططهم والامكانيات الفعلية. إن هذا يعني أن التطور التاريخي لا يتحدد بالرغبات الشخصية للشخصيات الجالسة على قمم السلطة وانما بحركة الطبقات الاجتماعية وتفاعلاتها وصراعاتها. إن الرجال البارزين أو قادة الطبقة يؤثرون على مصائرها بحكم اعمالهم او حماقاتهم، ولكنهم لا يصنعون طبقة، والقائد التاريخي انما يستمد مكانته وقوته من طبقة ما، وما لم يتمتع بتاييدها – اذ انه يمثل مصالحها واتجاهاتها – فإنه سيكون عاجزا ولا يستطيع ان يمارس تاثيرا حاسما. ولهذا يمكن القول ان الأهمية العملية لمسالة البناء الفوقي والبناء التحتي تكمن في أن حل هذه المسالة يساعد على التقييم الصحيح لدور البناء الفوقي في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

وبما أن البناء الفوقي في المجتمع الطبقي التناحري، انعكاس للبناء التحتي وتناقضاته. لذلك فهو الآخر أي البناء الفوقي للمجتمع الطبقي، متناقض، ويشمل على أفكار ومؤسسات مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع الطبقي. ولكن الأفكار والمؤسسات الخاصة بالطبقة المسيطرة اقتصاديا هي السائدة فيه. كتب ماركس وإنجلز:» إن الطبقة التي تمثل القوة المادية السائدة في المجتمع، هي في نفس الوقت قوته الروحية السائدة». ففي ظل الرأسمالية تسيطر البرجوازية اقتصاديا، ولذا فإن الأفكار والمؤسسات البرجوازية هي السائدة في المجتمع وتستخدمها البرجوازية في مكافحة الطبقة العاملة، من أجل تخليد سيطرتها.

ولكن الى جانب ذلك في المجتمع الرأسمالي الطبقة العاملة تصيغ أفكارها وتقيم مؤسساتها من أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات تعاونية من أجل محاربة البرجوازية. 

إن الدور الحاسم للبناء التحتي تجاه البناء الفوقي للمجتمع لا يتجسد فقط في حقيقة أن البناء الفوقي هو وليد البناء التحتي للمجتمع، بل أيضاً في أن التغييرات الهامة في النظام الاقتصادي تفضي بشكل موضوعي الى تغييرات في البناء الفوقي. فمثلاً بانتقال الرأسمالية ما قبل الاحتكارية الى الإمبريالية وميزتها الأساسية الاحتكارية، طرأ تغير هام في الاقتصاد الرأسمالي، فالمزاحمة الحرة أخلت مكانها للاحتكار.

عرض مقالات: