اخر الاخبار

تحولت محاكمة الرئيس البرازيلي الفاشي السابق جايير بولسونارو إلى خلاف جيوسياسي شامل. وفضيحة دبلوماسية بين البرازيل والويات المتحدة. من جهة تدافع المحكمة العليا البرازيلية عن استقلالها ضد تدخل دونالد ترامب، ومن جهة أخرى يفرض ترامب حظرًا على التأشيرات، ليس ضد بولسونارو، بل ضد المحكمة الدستورية البرازيلية بأكملها تقريبًا. ويرد الرئيس البرازيلي "لولا" بغضب، واصفًا سلوك ترامب بالاعتداء على سيادة البلاد. بالنتيجة نحن امام عملية طمس خطيرة للحدود بين الاختصاص القضائي والدبلوماسية والضغط الجيوسياسي.

تجاوز في السياسة الخارجية

تهمة بولسونارو هي التخطيط والتحضير لانقلاب بعد هزيمته في انتخابات عام ٢٠٢٢. وتعتبر محاكمة بولسونارو اخنبار نوعي للديمقراطية البرازيلية: هل ستتمكن البلاد من محاسبة رئيس سابق استبدادي من خلال سيادة القانون، أم يُفرض ستنهار تحت ضغط سياسي خارجي؟. وتُحوّل العقوبات الأمريكية الأخيرة النقاش ا من المسؤولية السياسية المحلية إلى استعراض دولي للقوة.

كان التجاوز على سيادة البرازيل، والخروج عن أصول السياسة الخارجية واضحا. لقد وصف وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو القضاء البرازيلي بأنه "نظام مُستغل سياسيًا"، وأصدر حظر سفر على القاضي ألكسندر دي مورايس وعائلته و"زملاء آخرين في المحكمة". ومع توسيع نطاق هذه العقوبات لتشمل سبعة قضاة دستوريين آخرين بما في ذلك رئيس المحكمة الدستورية العليا لويس روبرتو باروسو، أصبحت مؤسسة قضائية شرعية ديمقراطيًا، ولأول مرة في التاريخ، خاضعة لعقوبات شبه كاملة من قوة عظمى. أضف الى ذلك شمول المدعي العام باولو غونيت أ، كما أكد المدعي العام خورخي ميسياس، أدى الى تفاقم الوضع. ووصف الرئيس البرازيلي هذا الإجراء بأنه "تعسفي ولا أساس له "، ويمثل فضيحة دبلوماسية ذات أبعاد تاريخية.

إمبراطور غير مرغوب فيه

كشف الحدث طابع العلاقة الأيديولوجية والاستراتيجية الوثيقة بين جايير بولسونارو ودونالد ترامب. ويمثل   تدخل ترامب لصالح صديقه الفاشي تجاوزا كبيرًا في السياسة الخارجية وعلى القضاء البرازيلي وابتزازًا اقتصاديًا في شكل زيادة عقابية بنسبة 50 في المائة للرسوم الكمركية على السلع البرازيلية بدءًا من آب المقبل. يقدم بولسونارو نفسه على أنه محارب مناهض للصين ومدافع عن القيم الغربية، وهي صورة تكتسب زخمًا عبر دعم ترامب له في واشنطن. في الوقت نفسه، أصبح بولسونارو عبئًا على العلاقات الخارجية للبرازيل: لا تنظر حكومة الرئيس  "لولا إلى سلوكه على أنه هجوم سياسي محلي فقط، بل أيضًا كمحاولة لزعزعة علاقات البلاد الدولية.

يأتي هذا التصعيد في ظل تصاعد التوترات بين دول الجنوب العالمي، والقوى الغربية. وصف بولسونارو مؤخرًا دول البريكس بأنها "أخوة للديكتاتوريين ومجرمي الحرب"، بينما شبّه "لولا" السياسة الخارجية الأمريكية بـ „التعدي الإمبريالي". في قمة البريكس في ريو، سخر "لولا" من ترامب ووصفه بأنه "إمبراطور غير مرغوب فيه"، وهي صياغة تنطوي على إهانة، يبدو انها كانت محفز لفرض ترامب عقوباته الاقتصادية. جيوسياسا ينقسم العالم بين الحكومات اليسارية في الجنوب التي تؤكد على استقلاليتها، وحكومات الشمال اليمينية واليمينية المتطرفة التي تعتمد على نفوذ واشنطن.

أصبح استقلال القضاء الوطني مادة لصراع عالمي. يؤكد الرئيس البرازيلي والمدعي العام ميسياس أن المحاكم البرازيلية "لا ترهبها التهديدات أو المؤامرات". إلا أن حجم الهجوم غير مسبوق بشمول العقوبات الامريكية ثمانية من أصل أحد عشر قاضيًا في محكمة  العليا في البرازيل، ليس بتهمة الفساد أو انتهاكات القانون الدولي، بل بسبب أداء مهامهم الدستورية. وهذا يثير تساؤلًا بشأن قدرة المؤسسات الديمقراطية في دول الجنوب العالمي على العمل باستقلالية في المستقبل، إذا تعارضت مع المصالح الجيوسياسية لدول الشمال.

القضية البرازيلية بمثابة رسالة ً إلى ديمقراطيات أخرى في الجنوب العالمي: هل ستكون واشنطن مستعدة لمعاقبة الهيئات القضائية المستقلة في دول أخرى علنًا إذا لم تلتزم بالسياسة الخارجية الأمريكية؟ تدعم حكومة البرازيل المحكمةَ بوضوح، وهي خطوةٌ استراتيجيةٌ مهمةٌ في الدفاع عن السيادة واستقلالية القضاء. ولكن هذا لا يلغي المخاوف بشأن سيادة البرازيل واستقلال قضائها، اللذان قد يصبحا رهينةَ مصالح جيوسياسية.

لم تعد قضية بولسونارو مسألة قانونية بحتة. فهي تعكس التوازن الهش بين السيادة الوطنية والنفوذ العالمي، وبين استقلال القضاء والحسابات الجيوسياسية. وتنظر البرازيل إلى سلوك ترامب في تخريب الإجراءات البرازيلية من خلال الضغط الاقتصادي والدبلوماسي ليس فقط على أنها تدخل في الشؤون الداخلية، بل انتهاك للسيادة، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب على العلاقات مع الولايات المتحدة. إن كيفية تجاوز البرازيل لهذه الأزمة قد تُحدد مسار دول الجنوب العالمي الآن وفي المستقبل القريب.