اخر الاخبار

 

في تطور وصفته الصحافة المحلية نهاية الاسبوع الماضي بانه لافت، اصدر د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني قراراً بتجميد العمل بالمقترحات المطروحة حالياً من ادارة المركز القومي  للمناهج والبحث التربوي، والتي اثارت جدلاً واسعاً في البلاد.

وكانت حكومة الثورة قد اوكلت الى الخبير التربوي د. عمر القراي مهمة اصلاح المناهج، بتخليصها من الحمولة الايديولوجية لفكر الاخوان المسلمين، وجعلها منفتحة على روح العصر. فقام  بتشكيل لجان متخصصة من تربويين وعلماء مشهود لهم .

واقتضت تلك الاصلاحات تقليل عدد سور القران الكريم في المستويات الصغرى، واضافة مواد جديدة مثل المنطق والفلسفة والتربية الوطنية والمدنية في المنهج المعدل.

لكن الخطوة اثارت حفيظة رجال الدين. فاصبحت سيرة د. القراي وما قام به، مادة لخطب الجمعة وكتابات المحسوبين على النظام السابق في بعض الصحف. واستعانوا في ذلك بسيرة د. القراي، الذي ينتمي الى مدرسة فكرية ودينية اسسها الاستاذ الشهيد محمود محمد طه، الذي اغتاله الرئيس الاسبق جعفر النميري بتحريض من الجماعات الاسلامية، بعد ان اصدر حزبه الجمهوري بياناً ينتقد فيه تجربة تطبيق الشريعة الاسلامية في ذلك العهد. مع ان المحكمة التي قضت باعدامه  استندت في ذلك الى حكم سابق عليه بالردة، صادر عن محكمة شرعية في ستينيات القرن الماضي.

ويدعو محمود واتباعه الى اصلاحات في الدين الاسلامي تطال العقيدة واصول الفقه، الذي يرى انه بشكله الحالي لا يصلح لانسان القرن الحادي والعشرين. وقد اصدر كتاباً  بعنوان (الرسالة الثانية من الاسلام)، تنادي باعتماد الآيات المكية، وتأسيس فهم معاصر للدين استناداً عليها. فاعتبرته الجماعات السلفية مخالفا لتعاليم الاسلام واهدرت دمه، حتى جاء النميري ونفذ فيه الحكم، في واحدة من تقلبات ذلك  الرئيس، الذي بدأ عصره اشتراكياً قام بانقلاب لقطع الطريق امام اجازة الدستور الاسلامي عام 1969، وانتهي اسلامياً.

لكن د. القراي فوق ذلك  متخصص في المناهج، ونال درجة الدكتوراة فيها من الجامعات الامريكية، واستفاد من خبرته بعض الدول العربية. كما ان عملية اعادته صياغة المناهج اعتمدت على لجان من مختلف الاتجاهات الفكرية، عدا الجماعات الاسلامية التي اعدت اصلاً لمواجهة افكارها.

 ووجدت الجماعات الاسلامية بغيتها في لوحة من عصر النهضة الاوربية للفنان مايكل انجلو، تجسد قصة الخلق، وقد وضعت في كتاب التاريخ للصف السادس. فنشروها على نطاق واسع واوسعوها ومن وضعها نقداً لاذعاً، دفع برئيس الوزراء الى اصدار قرار بالتراجع عن إكمال العملية، والاعلان عن تكوين لجنة لمراجعة المناهج تضم عدداً من الهيئات  حصرها الاعلان في الجماعات الدينية بشقيها الصوفي والسلفي، واستثنى منها العلمانيين كما اوضح د. القراي في استقالته التي دفع بها فور اصدار القرار. وقد اعتُبر هذا استجابة كاملة لعناصر النظام المباد، من قبل حكومة يفترض انها جاءت لتصفية رموزه وافكاره.

وبعيداً عن الجدال الفكري والفقهي حول طبيعة ما حدث، فان هناك مؤشرات واقعية تدل على ان القصة لها صلة وثيقة بمافيا الكتاب المدرسي، التي سيطرت على طباعته وتسويقه بعد تصفية “دار النشر التربوي” وفك احتكار الدولة له في النظام السابق. حيث وجدت هذه المافيا ان استبدال المنهج  سوف يكبدها خسائر كبيرة،  تتمثل في ان ما مجموعه 5 ملايين كتاب ربما يكون مصيرها المحرقة بعد ان ينعدم الطلب عليها.

 من زاوية اخرى فان السيد حمدوك سيدخل في مواجهات عنيفة مع قوى الثورة بعد اجازة ميزانية هذا العام، التي يعتبرها اقتصاديون الاسوأ منذ ثلاثة سنوات. فهي تضع على عاتق الجماهير الشعبية اعباء فوق الاحتمال.

لكن حمدوك لن يستطيع التراجع عنها، باعتبارها  شرطا اساسيا في عملية الاصلاح التي يقترحها  صندوق النقد الدولي. ولأجلها زار وزير الخزينة الامريكية السودان قبل ايام وليوم واحد، وسط تبشير بدفع الحكومة الامريكية مبلغ مليار دولار تخصص لتسوية مديونية السودان وجعله مؤهلا لتلتقي القروض.

عليه قدّر حمدوك انه لن يستطيع مواجهة ضغط الثوار الواقع لامحالة، وضغط رجال الدين في وقت واحد، وهؤلاء ربما يحتاجهم في مقبل الايام حين ينكشف ظهره وتناصبه قوى الثورة العداء.

وفي تلميح لهذا التطور المرتقب اشار د.القراي في استقالته من طرف خفي الى ان الشعب السوداني ربما يدرك في هذه اللحظة بالتحديد، لماذا اختار النظام السابق عبد الله حمدوك لتولي وزارة المالية، وهو المنصب الذي عرض عليه وقتها واعتذر عنه.

عرض مقالات: