اخر الاخبار

حرب محو الذاكرة الوطنية سلاح يستخدمه المتسلطون على اختلاف مشاربهم، وتاريخ العالم حافل في ماضيه وحاضرة بتجارب عديدة من هذا النوع. يستذكر العراقيون اليوم الذكرى السادسة والسنين لثورة 14 تموز 1958 المجيدة، محتجين على القرار المجحف بإلغاء العيد الوطني العراقي، وعدم اعتباره عطلة رسمية. وما يحدث في الارجنتين منذ وصول الفاشيين الجدد إلى السلطة، يصب أيضا في هذا الاتجاه.

 في الأشهر الستة الأولى من ولايتها، قامت حكومة الرئيس الارجنتيني الفاشي خافيير ميلي بتفكيك مبادئ الاجماع الوطني كلياً أو جزئياً بشأن التعامل مع ماضي البلاد الدكتاتوري، فضلاً عن سياسة حقوق الإنسان والذاكرة الوطنية. هذا ما توصل إليه تقرير حديث لمركز الدراسات القانونية والاجتماعية. ويصف مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى التحقيق القضائي في الجرائم السابقة بأنه مضايقة وإذلال للقوات المسلحة، كما يصفون سياسة الذاكرة الوطنية بتلقين عقائدي.

ويرى مراقبون أن الهجوم على حركة حقوق الإنسان ولجنة الحقيقة جزء من «حرب ثقافية» تحريفية تاريخية تشنها حكومة ميلي. وتقود هذه المجموعة نائبة الرئيس فيكتوريا فيلارويل، التي كانت ناشطة لمدة 20 عامًا في المنظمات التي تدافع عن العسكر في عهد الدكتاتورية، وعملت على تحويل الجناة إلى ضحايا. وفيلارويل هي ابنة عسكري رفيع المستوى في عهد الديكتاتورية، هاجمت باستمرار منظمات حقوق الإنسان، ومنذ توليها مهام منصبها دعت إلى «ذاكرة مضادة»، لصالح عساكر الدكتاتورية.

وفي هذا السياق، تستمر عمليات التسريح الجماعي للعاملين في قطاع الخدمة المدنية التي تنفذها الحكومة، وخصوصا في المؤسسات المعنية بجرائم الدكتاتورية العسكرية (1976-1983). وهذا يهدد بإنهاء «سياسة الذاكرة والحقيقة والعدالة» المستمرة منذ عشرين عامًا في الارجنتين.

ووفقا لمعلومات نقابة العاملين في الدولة، فقد تم تسريح أكثر من 80 موظفا في سكرتارية الدولة لحقوق الإنسان في بداية تموز، التي تدير، بين أمور أخرى، اللجنة الوطنية للمختفين، أي أرشيف الذاكرة الوطنية، الذي يتم فيه حفظ وثائق لجنة الحقيقة لعام 1984، والتي أعلنتها اليونسكو تراثًا ثقافيًا عالميًا.

سكرتارية الدولة مسؤولة أيضًا عن العديد من النصب التذكارية في مواقع مراكز التعذيب السابقة للديكتاتوريات المدنية العسكرية. من ناحية، تمثل المواقع التذكارية أدلة مادية على الجرائم المرتكبة؛ وتعد من ناحية أخرى، بمثابة متاحف ومراكز للتعليم التاريخي والسياسي. ونتيجة لتسريح العاملين، تمت خسارة عالمين مهمين مثل علماء الآثار والمرممين وأمناء الأرشيف والمعلمين، مما يعني أنهم لم يعودوا قادرين على أداء مهامهم.

تقول ستيلا ماريس غافيلان، التي كانت، لأكثر من 16 عامًا، مسؤولة عن الترميم والحفظ في الموقع التذكاري لمركز التعذيب السابق في مدرسة الميكانيك البحرية: «تريد الحكومة إفلات مرتكبي جرائم الدكتاتورية من العقاب. وتشجع بذلك ظهور مرتكبي جرائم جدد، يستخدمون أساليب غير قانونية مثل الاعتقالات التعسفية والتهم الجنائية الملفقة لقمع الاحتجاجات الاجتماعية».

كما تعاني اللجنة الوطنية للمختفين، التي تأسست عام 1992، من تدخلات في عملها، وعراقيل واسعة النطاق. كمؤسسة حكومية مسؤولة عن العثور على قرابة 500 طفل تم اختطافهم خلال عهد الديكتاتورية وتم تسليمهم إلى عائلات قريبة من الجيش، بعد مقتل ذويهم. لقد تم التعرف على 137 منهم حتى الآن. ولا يزال البحث مستمراً عن الباقيين.

يهدد الطرد الآن مديرة اللجنة، لسنوات عديدة كلوديا كارلوتو والتضيق على حق اللجنة في الوصول إلى أرشيفات الدولة، وهو حق ضمنه المرسوم الجمهوري الذي أصدره الرئيس اليساري الأسبق نيستور كيرشنر في عام 2004. ويمكن أن يجد الموظفون الباقون أنفسهم مستقبلا، أمام أبواب الأرشيف العسكري المغلقة.

وفي نهاية أذار الفائت، أصبح معروفًا أيضا، طرد عاملين في وزارة الدفاع شاركوا في التعامل مع جرائم الدكتاتورية. منذ عام 2010، تعمل مجموعة من المتخصصين المدنيين في البحث في الأرشيف العسكري من أجل دعم المدعين العامين والمدعين المشاركين بالأدلة في الإجراءات القانونية الجارية ضد الجناة العسكريين والمدنيين. وبعد طرد 10 من 13 موظفا، أصبح بإمكان الجيش الآن أن يتخذ القرار بنفسه بشأن الطلبات القضائية المتعلقة بهذه القضايا.

وإزاء التدخلات الواسعة في سياسة الدولة المتعلقة بالذاكرة، دعت منظمات حقوق الإنسان، الخميس الفائت، إلى الانضمام إلى المسيرة التقليدية لأمهات ساحة مايو في بوينس آيرس، وهي حركة اسستها أمهات الضحايا في سنوات الدكتاتورية للكشف عن مصير أبنائهن. ودعت وثيقة نهائية مشتركة قدمتها إستيلا دي كارلوتو، رئيسة منظمة أمهات ساحة مايو، والحائز على جائزة نوبل للسلام أدولفو بيريز إسكيفيل، إلى إلغاء عمليات الفصل الوظيفي ومواصلة المحاكمات الجنائية والبحث عن الأطفال المسروقين. والحفاظ على الإجماع الديمقراطي المستمر منذ 40 عاما مضت.

واقترح السكرتير العام لنقابة العاملين في الدولة، رودولفو أغيار، المزيد من التدابير: «إذا لم يتم إعادة توظيف المفصولين وظلت الرواتب مجمدة، فإن الصراعات في قطاع الخدمة المدنية سوف تتفاقم. إن الظروف المعيشية للعمال والمتقاعدين تتدهور بشكل كبير، ولن نكتفي بالوقوف متفرجين».

يعتبر تعامل الدولة مع جرائم الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين نموذجيا على مستوى العالم. في عام 1985، وبعد عامين فقط من نهاية الدكتاتورية، تمت محاكمة كبار مسؤوليها وإدانتهم. وبعد عقود من الإفلات من العقاب، بدأت في التسعينيات، مئات المحاكمات الجنائية الجديدة. وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، تم تحويل العديد من مراكز التعذيب السابقة البالغ عددها حوالي 700 إلى مواقع تذكارية تحت مسؤولية الحكومة المركزية أو حكومات الولايات.

عرض مقالات: