على الرغم من أن نتائج الانتخابات العامة، وانتخابات المحافظات التي جرت في جنوب إفريقيا في 29 أيار الفائت، كانت متوقعة، إلا أنها كانت مثيرة للغابة، لأنها غيرت توازن القوى السياسية في البلاد. لقد فقد المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم لأول مرة منذ 30 الأكثرية. والمؤتمر الوطني الإفريقي هو حزب وتحالف ثلاثي في آن واحد يضم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، والحزب الشيوعي، والاتحاد العام للنقابات العمالية في البلاد. وعلى عكس ما تمنته وسائل الإعلام الغربية، فان المؤتمر الوطني الإفريقي فقد الأكثرية لصالح قوى يسارية اخرى، وليس لصالح التحالف اليميني بقيادة حزب التحالف الديمقراطي.
حزب نيلسون مانديلا
لقد قاد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي النضال الوطني في سبيل التحرر والقضاء على نظام الفصل العنصري، وخلد التاريخ رموز الحزب مثل نيلسون مانديلا وديزموند توتو، وكريس هاني والعديد من أبطال المقاومة الآخرين. وقاد الحزب العملية الديمقراطية، منذ التحول الكبير في عام 1994 وإلى اليوم. وكانت الحكومة وقوائم الحزب الانتخابية تتألف من أطراف التحالف الثلاثي: حزب المؤتمر الإفريقي، الحزب الشيوعي، واتحاد النقابات. وبعد انتهاء الفصل العنصري، أراد الكثير من الناس، وخاصة الأغلبية السوداء التي تعرضت للاضطهاد لعقود من الزمن، الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي. لقد تحقق الهدف الأول، في حين لم يتحقق الهدفان الآخران بالنسبة لكثير من الناس. وقد تكرس هذا الواقع، بعد ان استبدل البرنامج الديمقراطي الاجتماعي الذي وضعه نيلسون مانديلا في عام 1997، بأجندة ليبرالية جديدة.
نتائج الانتخابات
حصل المؤتمر الوطني الإفريقي على 40,2 في المائة، وهذا ثاني تراجع كبير له، بعد حصوله في انتخابات عام 2019 على 57 في المائة، وحل ثانيا، بفارق كبير التحالف الديمقراطي اليميني، بحصوله على 21,8 في المائة، وبزيادة لا تتجاوز 1 في المائة، وجاء ثالثا بحصوله على 14,6 في المائة، حزب «مخونتو وي سيزوي» (رأس الرمح وهو اسم الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي في سنوات النضال ضد نظام الفصل العنصري)، الذي أسسه قبل ستة أشهر رئيس الجمهورية، وحزب المؤتمر الوطني السابق جاكوب زوما، الذي أزيح من مناصبه القيادية بسبب ملفات فساد. ويعتبر الحزب الفائز الحقيقي في الانتخابات. وحل رابعا، بحصوله على 9,5 في المائة، وبخسارة طفيفة لا تتجاوز 1 في المائة، حزب «المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية» الماركسي، والذي نتج عن انشقاق في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي واتحاد النقابات في عام 2013، ويعتبر الحزب نفسه أكثر يسارية من الحزب الأم، في حين تصفه وسائل الإعلام التقليدية بـ «حزب شعبوي متطرف». وبالنظر لعدم وجود عتبة انتخابية في جنوب أفريقيا، فإن عددا كبيرا من الأحزاب الصغيرة سوف يدخل البرلمان المؤلف من 400 مقعد، بمقعد واحد على الأقل. ووفقا لدستور جنوب أفريقيا، فان على القوى الفائزة تشكيل الحكومة خلال أسبوعين من تاريخ إعلان النتائج النهائية.
إن هناك مفارقة مريرة في نتائج هذه الانتخابات: فمن ناحية، تتم معاقبة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بسبب الفساد الذي حدث في السنوات الماضية، وكذلك بسبب تقليص الضمان الاجتماعي، والركود الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة. وفي المقابل، يعتبر الرئيس السابق جاكوب زوما المستفيد الأكبر من الغضب الاجتماعي، على الرغم من دوره الأساسي كرئيس للجمهورية (2009 – 2018)، في تشكيل ملامح الأزمة الحالية. ولا يستطيع جاكوب زومايا دخول البرلمان حتى عام 2027، بسبب عقوبة السجن الصادرة بحقه على خلفية ملفات فساد.
الوضع الاقتصادي
بسبب سيادة الليبرالية الجديدة في السياسة الاقتصادية، يعاني أكبر اقتصاد في القارة الإفريقية من عدم المساواة في الدخل؛ إذ يعيش قرابة ثلثي السكان السود تحت خط الفقر. وتبلغ نسبة البطالة 32 في المائة، وتنشر الأعمال غير المستقرة في أوساط الشبيبة، بعقود قصيرة الأجل ورواتب منخفضة. ولذلك كان الوضع الاقتصادي أحد القضايا المركزية في هذه الانتخابات. بالإضافة إلى ذلك ركزت الحملة الانتخابية على ثلاث قضايا: مشروع الإصلاح الزراعي، الذي لم يمرر أخيرا في البرلمان، ومكافحة الفساد، وأزمة الطاقة. عندما يتعلق الأمر بالأراضي، فإن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وكذلك أحزاب اليسار الأخرى، قريبون من بعضهم البعض ويطالبون بمصادرة الأراضي، التي تم الاستيلاء عليها من مالكيها السود خلال عقود الفصل العنصري. من ناحية أخرى، يرفض التحالف الديمقراطي اليميني وحلفاؤه مصادرة ملكية كبار ملاك الأراضي البيض.
ولم يلعب الموقف التضامني الاستثنائي لجنوب افريقيا مع الشعب الفلسطيني، دورا مؤثرا في الحملة الانتخابية، لأن جميع أحزاب اليسار تشترك في هذا الموقف، بل حتى حزب التحالف الديمقراطي اليميني يوجه نقدا أخف لإسرائيل. والاستثناء الوحيد هنا هو «جبهة الحرية»، وريث نظام الفصل العنصري السابق، و“التحالف الوطني” اليميني المتطرف.
سيناريو التحالف الحكومي
من الواضح أن جنوب أفريقيا تحتاج إلى حكومة ائتلافية للمرة الأولى، إلا أن حدوث ذلك يعتمد إلى حد كبير على المواقف داخل المؤتمر الوطني الإفريقي كتحالف ثلاثي. الحزب الشيوعي والأوساط اليسارية في اتحاد النقابات وحزب المؤتمر نفسه، تميل إلى التحالف مع حزب «المقاتلون من الحرية الاقتصادية» الماركسي، في حين أن الأوساط الليبرالية في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي حول الرئيس الحالي رامافوسا أكثر ميلاً للتحالف مع «التحالف الديمقراطي» اليميني. ويُستبعد أن يتحالف حزب الرئيس السابق مع غريمه الرئيس الحالي.
من جهتها تحاول ماكينة الإعلام العالمية الدفع باتجاه التحالف مع اليمين الليبرالي، أو تشكيل ما يسمى بحكومة «وحدة وطنية» لتحجيم تأثير اليسار والتقدم خطوة على طريق تعزيز تراجعه.