أعلن الجيش السوداني أخيرا سيطرته على محيط الإذاعة السودانية ومبني التلفزيون القومي، بعد قتال شرس في إطار تحرير منطقة ام درمان العسكرية. الا ان قوات الدعم السريع ادعت انها انسحبت من الإذاعة تكتيكيا، ضمن تنفيذ الهدنة التي حددها قرار مجلس الأمن الاخير الذي اقترحته بريطانيا وايدته غالبية الدول الأعضاء، باستثناء روسيا التي امتنعت عن التصويت.
ومهما تكن تفسيرات قوات الدعم السريع لما حدث فانه يشير إلى أن مرحلة جديدة في الحرب قد بدأت، وهي مرحلة الانسحابات التكتيكية من جانب قوات الدعم السريع لمختلف الأسباب. وهذا تكتيك عسكري لم نعهده في سلوك القوات المذكورة، التي خاضت أكثر من ١٠٨ اشتباكات منذ بداية الحرب. فالانسحابات كان يقوم بها الجيش، مضحيا بالجغرافية ومحتفظا في نفس الوقت بكامل قوته العسكرية، استعدادا لمعارك قادمة كما ظهر في بابنوسة وام درمان، وفي تقدم قوات الهجانة في الأبيض. اما من الناحية السياسية فان استعادة الإذاعة برمزيتها التاريخية تعني استعادة صوت الدولة المختطف منذ بداية الحرب، لان الإذاعة السودانية كثيرا ما لعبت دورها المهم في توحيد وجدان الشعب ومزاجه العام. انشئت الإذاعة السودانية عام 1942 بناء على ضرورات الحرب العالمية الثانية، ولعبت دورا مهما في التعبئة بمنطقة غرب أفريقيا وشرق ووسط أفريقيا، لأنها كانت من الاذاعات القوية المسموعة في كل قطاع السافنا الافريقية. وتمكنت عبر هذا من نشر الثقافة السودانية ، خاصة الغناء. وهذا ما جعل الفنان السوداني الراحل محمد وردي يصبح فنان أفريقيا الأول. وظلت الاذاعات الوطنية في العواصم الأفريقية التي نالت استقلالها بعد السودان، تعتمد على إذاعة ام درمان من خلال التبادل الإذاعي.
كما ظلت إذاعة ام درمان مسموعة في كل الريف السوداني، وكانت من أهم عوامل الوحدة الوطنية. لذلك فإن عملية تحريرها تعتبر أكبر من مجرد عملية عسكرية، تمت من خلالها السيطرة على بضعة أمتار من الأرض. وتعني استعادة الإذاعة مع إكمال السيطرة على مدينة ام درمان، العاصمة الوطنية برمزيتها المتجذرة في وجدان اهل السودان منذ أن أقام فيها القائد الوطني محمد احمد المهدي عاصمة دولته المستقلة نهاية القرن التاسع عشر، تبدلا كبيرا في حسابات الحرب التي بات واضحا ان المرجح فوزه فيها هو الجيش السوداني.
هذه المعادلة الجديدة ربما تجعل الجيش يزهد في الحوار، ويفضل عليه استكمال مشوار الانتصارات حتى يحسم الحرب بقوة السلاح، ويجرد الدعم السريع من قوته، ويضع المجتمع الدولي والاقليمي امام وضع مختلف. وهذا الاتجاه سيجد دعما قويا من التيار الإسلامي، الذي ظهرت عناصره ممثلة في كتيبة البراء ابن مالك امام الإذاعة لحظة اعلان تحريرها، تريد اختطاف هذا النصر وادعاء فضلها فيه، والاعلان من فوق ذلك عن استمرار القتال ورفض اية هدنة او حلول تفاوضية.
لكن من غير المرجح ان يوحد هذا الاتجاه خلفه كل قاعدة الجيش وقيادته، التي ترى ان ساعة الحوار قد حانت، وانه سيكون حوارا من فوق انتصارات عسكرية مشهودة، كما تشير إلى ذلك معركة الإذاعة.
لذلك يتوقع أن يتفجر الصراع الذي طال انتظاره بين عدة تيارات داخل الجيش والقوى السياسية المناصرة لها، حول الموقف من الحوار. فقد ارتفعت أصوات داخل المعسكر الداعي لاستمرار الحرب، تقول ان الحوار مع الدعم السريع ممكن اذا تخلى هو عن تحالفه مع قوى الحرية والتغيير ومع جبهة “تقدم” بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.