اخر الاخبار

انبعثت في الايام القليلة الماضية روائح كريهة من مباني مستشفى التمييز بامتداد الدرجة الثالثة في الخرطوم. وهبّ المواطنون الى هناك ليجدوا ثلاجة خضار عادية كُدس فيها اكثر من 200 جثة، في حين ان سعتها 44 جثة فقط، مع انها اصلاً ليست معدة لمثل هذا الغرض.

وبعد مناقشات مطولة مع ادارة المستشفى اتضح انها تتبع الطب العدلي، وان الجثث الموجودة فيها تعود الى العام 2019. وهي  الفترة التي شهدت فض الاعتصام امام قيادة الجيش، والذي راح ضحيته عدد كبير من المدنيين فشلت الجهات الرسمية والشعبية في تحديد عددهم، ولا زال اهاليهم ينتظرون تحقيق العدالة. ولم تجد  الحكومة قطعة ارض خالية من النزاع تستخدمها كمقبرة، بعد الاحتفاظ بعينات منها لاخذ الحمض النووي لغرض التحقيق.

 وكانت الجماهير قد اكتشفت قبل فترة من الان تكدسا لجثث مجهولة الهوية بمستشفى ود مدني بولاية الجزيرة، تعود الى نفس التاريخ  وهي متحللة، وقادت للكشف عنها ايضاً الروائح المنبعثة منها. ولا يوجد اي احتمال سوى ان تكون الجثث تخص حادثة فض الاعتصام في الثالث من يونيو عام 2019.

وكانت الحادثة الاخيرة مناسبة لاحياء ذكرى الاعتصام، ولكن هذه المرة امام مستشفى التميز وسط العاصمة. وقال الثوار انهم لن يبرحوا مكانهم حتى تنجلي الحقيقة، في وقت اخذت فيه الثقة تتراجع في اللجنة الحكومية لتقصي الحقائق حول الجريمة، التي اطلعت على عدد كبير من الفيديوهات التي وثقت الحدث، واستمعت لعدد مماثل من شهادات حضور العيان  واستدعت قيادات كبيرة في الدولة للمثول امامها، ووعدت باستدعاء القائد العام للقوات المسلحة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقول حميدتي قائد قوات الدعم السريع، الا انها حتى الان لم توجه اتهاما محددا الى اي جهة. مع ان الفيديوهات اظهرت جنوداً يرتدون الزي الرسمي لمختلف القوات النظامية. كما ان الجريمة وقعت امام حرم القيادة العامة في وقت كانت فيه اللجنة الامنية تتولى زمام الامور في البلاد، قبل تكوين الحكومة الانتقالية الحالية.

وكانت النيابة العامة قد اعلنت في وقت سابق عن اكتشاف مقبرة جماعية على تخوم الصحراء، رجحت ان من فيها هم قتلى فض الاعتصام، خاصة وان الجثث وجدت موثوقة الايدي من الخلف، وهي نفس الوضعية التي تم فيها انتشال جثث من نهر النيل ابان وقوع الحادثة.

وتتهم اسر الضحايا والثوار لجنة التحقيق بالتواطؤ وعدم القدرة على كشف الجناة الحقيقيين، الذين يشغلون مواقع حساسة في قمة السلطة، وان تقديمهم للمحاكم ربما يخل بموازنة الحكم في الفترة الانتقالية. لذلك تتعالى الاصوات بتحويل القضية الى العدالة الدولية نظرا لعجز ادوات العدالة في السودان عن انصاف الضحايا.

وقد دخلت القضية مرحلة التدويل واتخذتها دوائر عالمية وسيلة للضغط على المكون العسكري من اجل تقديم تنازلات لصالح الشق المدني. خاصة بعد وصول ادارة بايدن الى السلطة في امريكا. ويبدو ان التلويح بها قد حقق بعض الاهداف فيما يخص التنازلات التي قدمها المكون العسكري فيما يتعلق بشركات الاجهزة العسكرية والتي وافقت قيادة الجيش بان تكون تحت  اشراف وزارة المالية. كما ان القيادة العسكرية قطعت اشواطاً بعيدة في قضايا جوهرية مثل التطبيع والغاء قانون مقاطعة اسرائيل وغيرها من التقاطعات الدولية في المنطقة والقارة الافريقية.

لكن ماذا تجدي التنازلات التي تقدمها السلطة في الخرطوم تجاه مطالبة اسر القتلى والمفقودين بالانصاف وتحقيق العدالة، خاصة وان الايام في كل مرة تكشف الجديد والمخفي من هذه الجريمة، التي هزت ضمير الانسانية. كما ان الكشوفات الجديدة المتعلقة بثلاجة وسط الخرطوم اعادت الاعتبار ليس للقضية فحسب، ولكن لمجمل  مجريات الثورة التي لم تحقق اهدافها في ظل توافق بين الحكومة الجديدة بكل مكوناتها والنظام القديم، الذي اخذ يستعيد مواقعه التي تراجع عنها تحت ضغط الثوار. وفي وقت يتزايد فيه تاثير الضائقة المعيشية، وتتراجع الحكومة عن الحريات العامة وتفعل القوانين القديمة التي تنتظر التغيير عن طريق المجلس التشريعي، الذي يخضع قيامه الى مساومات بين  الكتل الحزبية المختلفة داخل السلطة وخارجها، بعد دخول الحركات المسلحة الى قلب المشهد السياسي.

عرض مقالات: