تواجه محافظة ذي قار أزمة متفاقمة في ملف الصحة النفسية، إذ تزايدت في الأشهر الأخيرة معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات في ظل غياب مؤسسات علاجية متخصصة ونقص حاد في أعداد الأطباء النفسيين. وبينما سجّلت اللجنة الفرعية لمكافحة التطرف العنيف 17 حالة انتحار خلال ثلاثة أشهر فقط، يؤكد مختصون أن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب انتشار المخدرات والدوافع الدينية الغامضة، باتت عوامل رئيسية تدفع الشباب نحو الانحراف والانهيار النفسي، فيما لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين الفاعلين في المحافظة أصابع اليد الواحدة.
دوافع دينية غامضة
وذكرت اللجنة الفرعية لمكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب في محافظة ذي قار، أن المحافظة سجلت 17 حالة انتحار خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
وقال رئيس اللجنة د. علي الناشي، أن أغلب هذه الحالات جاءت بدوافع دينية غامضة "تثير الكثير من التساؤلات"، إلى جانب أسباب اقتصادية ومعيشية خانقة تواجهها بعض العائلات ومشكلات تتعلق بتعاطي المخدرات.
وأضاف الناشي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن بعض الضحايا كانوا منتمين إلى جماعة القربان، مؤكداً أن فئة الشباب المراهق تعد الحلقة الأضعف أمام الاستغلال الفكري والديني والاجتماعي، نتيجة قلة الوعي وترك مقاعد الدراسة، ما يجعلهم أكثر عرضة للانحراف والأفكار المتطرفة.
ودعا الناشي إلى إطلاق برامج وورش تثقيفية وتوعوية شاملة تستهدف المراهقين، مع دعم المنظمات الدولية لهذه الجهود لتعزيز الوعي المجتمعي وحماية الفئات الهشة من الانزلاق نحو الاستغلال أو الانتحار.
وأضاف أن لجنته "تعمل حالياً بالتنسيق مع إدارة المحافظة والأجهزة الأمنية على متابعة هذه الظاهرة ووضع حلول عملية تحد من تفاقمها، مؤكداً أن التعامل مع الظاهرة يجب أن يكون شاملاً يجمع بين الجانب الأمني والاجتماعي والتوعوي، وليس أمنياً فقط.
ظروف اجتماعية صعبة
فيما قال الطبيب النفسي بورد صحة عقلية علي الأسدي، إن محافظة ذي قار تعاني من نقص حاد في أعداد الأطباء النفسيين، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء المختصين في المحافظة حاجز الـ ٨ أطباء، وهو رقم غير كاف لتغطية الاحتياجات.
وأضاف الاسدي في تعليق لـ"طريق الشعب"، أن هذا النقص يشكل عبئا كبيرا على المراجعين، ويجبر بعض المرضى على السفر إلى محافظات أخرى للحصول على العلاج النفسي المناسب، موضحا أن "الأزمة لا تقتصر على نقص الأطباء فقط، بل تتضاعف بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطنون، مثل البطالة، الفقر، التفكك الأسري، وغياب الفرص الوظيفية، ما يزيد من معدلات الأمراض النفسية وحالات الانتحار".
وتابع قائلاً: ان "أعداد المرضى، ولاسيما حالات الإدمان واضطرابات المزاج، التي تتطلب متابعة مستمرة وعلاج متخصص. هذا الوضع يستدعي تدخل عاجل من وزارة الصحة والجهات المعنية لتوسيع خدمات الرعاية النفسية، بما يشمل زيادة عدد المقاعد الدراسية في التخصص النفسي، وتقديم حوافز للطلبة والأطباء، وإنشاء مراكز متخصصة حديثة في المحافظة".
ولفت الأسدي الى أن "المتابعة المبكرة للمرضى وتوفير برامج التوعية والتثقيف النفسي داخل المجتمع والمدارس، يمكن أن يقلل من تفاقم الحالات ويخفف الضغط على المراكز القائمة. الصحة النفسية جزء أساسي من صحة الإنسان واستقرار المجتمع، وإهمالها يؤدي إلى آثار اجتماعية خطرة، تشمل زيادة العنف والمخدرات والانتحار بين الشباب".
نقص حاد في اختصاص الطب النفسي
من جهته، كشف د. إبراهيم الصائغ، مدير مكتب الصحة النفسية في دائرة صحة ذي قار، عن عمق أزمة نقص الأطباء النفسيين في المحافظة، مؤكداً أن عدد سكان ذي قار يتجاوز مليونين ونصف المليون نسمة، ما يتطلب وجود أكثر من ثمانية أطباء نفسيين على الأقل لتغطية احتياجاتهم في مجال الصحة النفسية.
وقال الصائغ لـ"طريق الشعب"، إن "المحافظة لا تضم حالياً سوى أربعة أطباء نفسيين، كما أن هناك مشكلة في توزيع الكوادر الطبية النفسية لمحافظة ذي قار".
ردهة واحدة للتعافي!
فيما أكد أحد الأطباء الاختصاصيين العاملين في مستشفى الحسين العام، ياسر حسين إن المحافظة "تفتقر إلى مؤسسات متخصصة لعلاج حالات الإدمان والمخدرات"، مؤكداً أن "المحافظة لا تضم سوى ردهة واحدة فقط داخل مستشفى الحسين العام تُعرف بـ(ردهة الحياة للتعافي)، وهي غير كافية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المرضى".
وأضاف لـ"طريق الشعب"، أن "غياب مراكز علاج متخصصة أو مصحات نفسية للتعامل مع حالات الإدمان يجعل العبء كبيراً على الكوادر الصحية العاملة، ويؤدي إلى صعوبة في توفير برامج تأهيل شاملة للمتعافين".
وأكد الطبيب أن "ظاهرة الإدمان باتت تمثل تحدياً خطيراً يهدد الشباب بشكل خاص، ويحتاج إلى حلول عملية تبدأ بإنشاء مراكز متخصصة للعلاج النفسي والسلوكي، مع دعم البرامج الوقائية والتوعوية داخل المجتمع"، مشدداً على أن "وجود ردهة واحدة فقط لا يلبي الحاجة الفعلية لمدينة يتجاوز عدد سكانها المليونين".