تمنى ليو تولستوي أن ينهي روايته (آنا كارينينا) سريعا. خلال سنة من بداية كتابتها في أوائل سنة 1873 كان ينظر مسبقا الى مستقبل طبعها ككتاب. إن كامل " هيكل" ما نعرفه الآن بوصفه رواية قد كتب مسبقا، بضمنه موت (آنا) في محطة القطار، ولكن تولستوي كان غير راض عما أنجز، فقد بدأ نشره متسلسلا حتى سنة 1875 في جريدة (الساعي الروسي) عبر ثلاثة مواسم، وكان جزء كبيرا منه كتب باستعجال لنشره، وبالنتيجة فإن الكثير من المشاهد في التسلسل جاءت متأخرة.
وفقا لميخائيل دولبيلوف في كتابه (حياة رواية أثناء عملية الخلق: من النص القَبْلي الى النص الكامل) (الكتاب باللغة الروسية)، فإن الرواية لم تكتب مثل (الحرب والسلام) التي جاء تسلسل أحداثها حسب نظام ظهورها النهائي. يوفر كتابه نظرة جديدة كليا في تكون وتطور رواية تولستوي المقروءة بشكل واسع. إن (آنا كارينينا) المنظور اليها بوصفها قصة زنى امرأة ارستقراطية، هي حكاية كسر اتحاد مع الزوج الأخرق، ولكن المحترم، والتودد المتقطع ولكن الناجح أخيرا الى المرأة الموسكوفية من قبل ليفين، وهو مالك أرض لديه حب للزراعة وآراء سياسية قريبة من آراء مؤلف الرواية. لم يكن ليفين جزءا من الخطة الأصلية ولكنه دخل فيها وحل محل البطلة في جزء كبير من القسم النهائي، مشكلا استيطانا استعماريا لحيز سردي. توصل دولبيلوف الى وثائق تولستوي غير المنشورة، وهو مؤرخ كتب مستقيا من هذه الأراشيف تاريخا ثقافيا وسياسيا روسيا لسبعينيات القرن التاسع عشر مانحا تحليلا دقيقا للرواية ودارسا لثلاثة ازمنة والروابط بينها: مرور الزمن في الرواية، ومرور الزمن في حياة تولستوي وهو يكتبها، وعلاقة الزمانين بالأحداث والنقاشات التي دارت في روسيا خلال فترة تأليفها.
من المفاجآت الأخرى أن دولبيلوف يرسم صورة لآنا كارينينا كونها تعكس اهتمام تولستوي ببلاط ألكسندر الثاني المميز بنزعتين متناقضتين: ثقافة تقوى شديدة محيطة بالإمبراطورة كان تولستوي يحاط علما بها من رسائل ابن عمه، إنها سيدة في حالة انتظار، والنزعة الثانية هي الإباحية المتفشية حديثا متمثلة بالرابطة طويلة الامد للقيصر بأم أطفاله غير الشرعيين، وبفضائح أقاربه الجنسية المتعددة، ومن يعلم فربما كان تلذذ الأمير بالمتع " الطازجة كالخيار الهولندي الأخضر اللدن" مستلهمة من سلوك إدوارد السابع الذي جاء الى بطرسبورغ لحضور حفل زواج شقيقه بينما كان تولستوي يكتب الرواية. إن هذا أكثر وضوحا في المسودات الأولية، ولكنه مع ذلك لعب دورا مهما في تشكيل الحبكة (لقد جلبت الرواية انتباه البلاط وقرئت بصوت عال للإمبراطورة وأبكت أحد المتوددين اليها).
تقدم دراسة دولبيلوف أساسا فهما جديدا لشخصية فرونسكي عشيق (آنا). يقرأ المشهد الذي يطلق فيه فرونسكي النار على نفسه (وهو فعل يدعي تولستوي أنه فاجأه شخصيا) بوصفه تصويرا لصعوبات المؤلف التأليفية بحيث أن القلم في يد تولستوي معادل للمسدس في يد فرونسكي. إن محاولة انتحاره الفاشلة أتبعها مباشرة بمحاولته غير المتوقعة وغير المجدية معا لأن يكون فنانا.
إن العديد من قراء "آنا كارينينا" أربكهم رفضها قبول الطلاق من زوجها الذي عرضه عليها أخيرا. يبدو قرارها هو الخطوة المهلكة التي أدت أخيرا الى موتها على خط السكة . يفصّل دولبيلوف في تذبذب تولستوي المسهب حول هذه المسألة. يسمح في موضع بزواج آنا من جديد قبل أن ينبذ فجأة هذا الحل مع اقتراب النشر. ينتج تردد تولستوي استمرارية أخطاء في النص النهائي. إن آنا كانت دائما ذاهبة للموت بقرار منها، وعدم يقين تولستوي كان سببا في عدم وضوح كيفية إيصالها الى تلك النقطة من اليأس، وكانت النهاية أخيرا عن طريق الحيلة الفنية الأسهل، والمتمثلة بإلقائها نفسها أمام القطار القادم.
إن الكتاب الوحيد باللغة الإنكليزية عن تأليف آنا كارينينا هو (خلق آنا كارينينا: تولستوي وولادة بطلة الأدب الأكثر إبهاما) 2020 يكثر فيه المؤلف (بوب بليسديل) من التعبير عن إحباطه للتكرار في أسلوب تولستوي. لكن دولبيلوف على العكس يجادل بأن تعقيد الرواية وعمقها ينجمان بالضبط عن التواتر فيها، ولقد كتب تولستوي نفسه بأنه للتوصل الى فهم (آنا كارينينا) يتوجب البحث عن " الروابط الداخلية" وقد كشف دولبيلوف تلك الروابط في مسودات الرواية وفي الشد بين هذه المسودات وبين النسخة "النهائية"، مصورا الاختلافات كبدائل.
إن قراء (آنا كارينينا) لأكثر من قرن قد فُتنوا بالقصتين المتوازيتين، والمختلفتين من جانب آخر، لشخصيتيها الرئيستين، آنا وفرونسكي، حيث نرى الآن بإن كُلّاً من تلك السطور السردية لها الموازي والمنافس في تاريخ تأليف الرواية في المسودات، وأن هذه النسخ البديلة لا تزال محسوسة في النص النهائي. كان تولستوي فخورا ڊ"عمارة" كتابه، ولكن دولبيلوف يشير بابتهاج الى أنه، في هذه الحالة، يعتمد فهم عمارة الرواية على تقدير آثارها الموجودة في المسودات حق قدرها.
Times literary supplement, 1 November 2024