تقاسمنا مقاعد الدراسة في مدرسة المأمون الابتدائية، وشهد طين شوارع وأزقة السماوة شقاوة طفولتنا. كانت أجواء مدينتنا الغالية السماوة تمنحنا، نحن الصبية، إمكانية أن نكون أكثر من زملاء دراسة وأصدقاء طفولة، فعوائلنا كانت متحابة وعلاقاتها متشابكة. قضيت طفولتي في بيت جدي لأمي (حلو بايش ليلو)، وترعرعت في (عگد اليهود) ـ عگد = زقاق ـ، وكان مدخل العگد يبدأ مباشرة من (سوق السماوة المسقوف) الشهير، وبالضبط مقابل دكان بيع القرطاسية واللوازم المدرسية، لصاحبه السيد عبد العزيز حمود السماوي، والد صديقي جمال، فكان مقراً للقاءاتنا و"قاعدة خلفية" للهرب والاختباء بعد ملل وتعب أهل السوق من عبثنا الطفولي.
في المدرسة الابتدائية، لطالما استفزني الطلبة المتنمرون مع جمال، الطالب الهادئ بطبعه والمسالم. كان جمال وسيماً ونظيفاً دائماً وذكياً، فكان ذلك كما يبدو يثير البعض ويدفعهم للتنمر، وكنت كصديق وزميل نتقاسم مقعداً دراسياً واحداً، دائم العراك مع المتنمرين دفاعاً عنه، فكان البعض يلمح بخباثة إلى أن ذلك بسبب كون جمال يتقاسم معي دوماً ما يشتري من الحانوت، فانحداره من عائلة موسرة يجعله زبوناً دائماً لحانوت المدرسة!
وافترقنا بعد انتقالي للدراسة الجامعية في البصرة، والتحاق جمال لدراسة الموسيقى في بغداد، ولم ينقطع التواصل بيننا.
وأذكر في يوم حفل عقد قران أخي الراحل هاشم علي هداد (1953ــ 2021)، في منطقة العطيفية في بغداد، في 1978 ـ على ما أذكر ـ فاجأنا الجميل جمال بالمجيء إلى الحفل وبصحبته كوكبة من الطلبة الموسيقيين والفنانين من طلاب الأكاديمية والمعهد، منهم صديقنا الفنان قحطان العطار، الذي سبق وزارنا في بيتنا إلى السماوة، والصديق المسرحي عثمان فارس (مقيم حالياً في السويد)، وبعض الأسماء التي أصبحت لها شأن في المسرح والغناء والسينما، ويومها إذ حضر أيضاً صديقنا الفنان الراحل فؤاد سالم، فتحول الحفل، بكل هذا الحضور، إلى شيء مدهش، إذ ازدحمت حديقة البيت بالناس، في احتفالية لم نخطط لها وكان جمال في القلب منها، وراح العديد من الناس يدبكون مع أغانٍ لم يسمعوها من قبل، مثل (اليمشي بدربنه شيشوف يا أبو علي)، و(عمي يا أبو الجاكوج) وغيرها.
وأثر اضطراري لترك العراق صيف عام 1979، إثر تصاعد القمع البعثي العفلقي البوليسي، انقطع التواصل بيننا، وبعد سقوط النظام العفلقي الفاشي، وفي أول زيارة لي إلى بغداد، التقينا، بدون موعد، في مقر الحزب الشيوعي العراقي، في الأندلس، ومن يومها لم تتوقف بيننا اللقاءات والمكالمات الهاتفية. أحزنني في السنوات الأخيرة جداً تدهور أحواله الصحية، وكثرة معاناته من هذا الجانب، وكان يكابر دون شكوى، ويواصل حياته بشكل يثير الاعتزاز، فكنت أتواصل مع شقيقه الصديق سامي للاطمئنان عليه، إذ كنت أتهرب من سؤاله عن التفاصيل في لقاءاتنا مخافة إثارة مواجعه، وأنا أراه يعاني من ذلك كثيراً.
الأيام الأخيرة، مع دخوله المستشفى، كنت على تواصل مع أفراد من العائلة لمتابعة أحواله، ولم أتفاجأ بنشر خبر رحيله، ولكن حين أكد لي العزيز سامي ذلك شعرت بأن شيئاً ثلم من قلبي.
إننا نفقد أحبابنا فرداً فرداً. إن شواهد طفولتنا وصبانا تختفي، ولم يبقَ لنا سوى الألم والذكريات.
ارقد بسلام عزيزي جمال، فأوتار موسيقاك ستظل تصدح وتغرد باسمك لأنك أحببت الناس والموسيقى والحياة.
العزاء الحار لنا ولعائلته ومحبيه.
بطاقة شخصية
الاسم: جمال عبد العزيز حمود السماوي
مواليد: مدينة السماوة 1956
الدراسة: معهد الفنون الجميلة 1974
التخصص: العزف على آلة القانون
شيء عن سيرته الموسيقية: رافق بالعزف أهم المطربين العراقيين مثل فؤاد سالم، ياس خضر، سعدون جابر وحسين نعمة وغيرهم. ساهم وأسس في أكثر من فرقة موسيقية، من آخرها (الأوركسترا الشرقية) التي ضمت حوالي أربعين عازفاً. ألف الموسيقى التصويرية لفيلم (روح السماوة) للمخرج هادي ماهود.