اخر الاخبار

للإمبريالية بيانُ مهمةٍ جديد. فمع إصدار إدارة ترامب النسخة المُحدَّثة من استراتيجية الأمن القومي، تُعلن الحملة الرامية إلى إبقاء الرأسمالية الأميركية في مقعد القيادة العالمي إلى أن من يمسكون بالدفة مستعدون لالتقاط السلاح.

ومنذ عودته إلى المنصب، ركّزت جهود الرئيس الامريكي لتعزيز الهيمنة الاقتصادية المتراجعة إلى حدٍّ كبير للشركات الأميركية، على إقناع المترددين من الشركاء التجاريين باستخدام تهديدات الرسوم الجمركية، أو إقصاء المنافسين في الأسواق عبر العقوبات وقيود التصدير.

ومهما بدت تلك الخطوات عدوانية، فقد يتبيّن أنها ليست سوى «الجزرة» مقارنةً بـ«العصا» التي يبدو أن الدولة الرأسمالية باتت مستعدة لاستخدامها الآن من أجل أرباح الطبقة الحاكمة.

قبل أكثر من قرن، لاحظت المنظِّرة الماركسية للاقتصاد السياسي روزا لوكسمبورغ أن العسكرة ليست عدواناً من أجل العدوان، بل هي «الوسيلة الأسمى لتحقيق فائض القيمة». وتؤكد الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي صحة قولها.

أمنُ مَن؟

ليست استراتيجية الأمن القومي خطةً لـ «الأمن الوطني» كما يروّج لها البيت الأبيض، بل استراتيجيةٌ قاسية لتأمين الهيمنة العالمية لرأس المال الاحتكاري الأميركي. ودافعها الرئيسي هو سحق القوى المنافسة، وإبطاء تنامي النفوذ الدولي للصين، والحفاظ على الهيمنة الأميركية عالمياً.

وحين يتغنّى نص هذه الوثيقة بشعار «أميركا أولاً»، فهو يعني في الحقيقة «الإمبريالية أولاً»، إذ يعرّف «المصلحة الوطنية» حصراً باعتبارها مصلحة الطبقة الحاكمة.

يأتي هذا المخطط الإمبريالي في ظل حشدٍ عسكري أميركي خطير في منطقة الكاريبي، وضرباتٍ سافرة خارج نطاق القانون، بما يشير إلى تصعيدٍ عنيف في حملة واشنطن لتغيير النظام في فنزويلا. ولا تترك الاستراتيجية الجديدة مجالاً للشك في أن هذا العدوان جزءٌ من تخطيط أشمل.

فهي تعلن أن أولويتها القصوى هي «إعادة تأكيد وتطبيق مبدأ مونرو لاستعادة التفوق الأميركي في نصف الكرة الغربي». وهذا ما يُسمّى «ملحق ترامب»، الذي أُعلن في الذكرى الـ 202 لمبدأ مونرو، ليس سوى وصفةٍ لتجديد الهيمنة الأميركية، متخفّياً خلف حماية المنطقة من «الفاعلين الخارجيين»، ولا سيما الصين.

وتتعهد استراتيجية الأمن القومي «بحرمان المنافسين من خارج نصف الكرة من القدرة… على امتلاك أو السيطرة على أصولٍ حيوية استراتيجياً»، في لغةٍ مُشفَّرة تعبّر عن عزمٍ على عرقلة تعاون أميركا اللاتينية مع الصين في مجالي البنية التحتية والتنمية. وتتباهى، على سبيل المثال، بإعادة «الوصول المميّز» الأميركي إلى قناة بنما.

التخلّي عن سيادة (الآخرين)

عملياً، يعني ذلك تصعيد العداء للتحالفات الجيوسياسية التي تراها الولايات المتحدة منافسةً لها، مثل «بريكس»، وشنّ عمليات تغيير أنظمة ضد شعوب أي بلدٍ يصرّ على سيادته. وهكذا تنكشف زيفُ بلاغة «السيادة والاحترام» الواردة في الوثيقة، إذ تؤكّد الإمبريالية الأميركية سيادتها المطلقة بينما تخطّط صراحة لانتهاك سيادة الدول الواقعة ضمن «مجال نفوذها» المعلن. وتأتي فنزويلا في طليعة المستهدفين، لكن استقلال كل دولةٍ في المنطقة بات مهدداً.

ويمتدّ التصور الإمبريالي للاستراتيجية إلى بقية العالم أيضاً. فادعاؤها امتلاك «ميلٍ إلى عدم التدخل» ليس إلا مهزلة كاملة. إذ ترسم الوثيقة بأكملها استراتيجية للتدخل الاقتصادي والسياسي والعسكري العدواني.

تشدّد الوثيقة على منع إعادة توحيد الصين مع تايوان نظراً لأهمية الجزيرة في الهيمنة البحرية الأميركية، وتدعو دول المحيطين الهندي والهادئ إلى منح الجيش الأميركي وصولاً أوسع. كما تُفصِح بإسهاب عن ضرورة الحفاظ على التفوق على الصين، «الندّ القريب».

ويطلّ العداء للشيوعية - وهو الملاذ الدائم لأيديولوجيي الرأسمالية - من خلال الدعوة إلى «إجراءات اقتصادية منضبطة» لمحاصرة الصين وسياساتها الاقتصادية ذات التوجّه الاشتراكي، التي يُستخفّ بها باعتبارها «إعاناتٍ مفترسة موجّهة من الدولة واستراتيجيات صناعية».

كما تؤكد الاستراتيجية مطلب إنفاق دول حلف الأطلسي «الناتو» 5 في المئة من ناتجها المحلي على العسكرة، ومواجهة الصين وروسيا مباشرةً، وهو تجديدٌ لدور الحلف بوصفه رأس حربة إمبريالياً للعدوان.

وفي أوروبا، يتمثل هدف الإمبريالية الأميركية في «تنمية المقاومة» لاستقلال الاتحاد الأوروبي عبر دعم أحزاب قومية يمينية متطرفة موالية لواشنطن، لضمان بقاء أوروبا أداةً تابعة. ويُقدَّم هذا الهدف على أنه «مساعدة أوروبا على تصحيح مسارها الحالي».

أما «الدول غير المُعتلّة في وسط وشرق وجنوب أوروبا» - أي تلك التي تحكمها حكومات يمينية ودّية لإدارة ترامب -فسيُعمَل على بنائها «من خلال الروابط التجارية، ومبيعات السلاح، والتعاون السياسي، والتبادلات الثقافية والتعليمية».

وفي إشارةٍ إلى موسكو، تقول الوثيقة إن إدارة ترامب ستعمل على «إنهاء التصوّر، ومنع الواقع، القائل إن حلف الأطلسي (الناتو) تحالفٌ يتمدد إلى ما لا نهاية». وهذه مناورة خطابية ضمن استراتيجية البيت الأبيض لفكّ ارتباط روسيا بالصين، ومنع التعاون بين بلدين يُنظر إليهما كمنافسين.

وتسعى استراتيجية ترامب للأمن القومي إلى «الهيمنة في مجال الطاقة»، وترفض مفهوم «صفر صافي الانبعاثات» في مواجهة تغيّر المناخ. وهذا يبعث برسالةٍ واضحة عن تعبئةٍ كاملة - مدعومة من الدولة - لرأس المال الأميركي في الوقود الأحفوري لتكثيف الاستخراج وتقويض الجهود المناخية العالمية.

وفي أفريقيا، يُقصد بالتحول من «المعونة إلى الاستثمار» الاستيلاء على «المعادن الحيوية» للقارة من أجل التراكم والنهب الإمبرياليين. وتفضّل الاستراتيجية الشراكات مع ما تسميه «دولاً قادرة وموثوقة ملتزمة بفتح أسواقها للسلع والخدمات الأميركية». وأي بلدٍ يحاول انتهاج مسارٍ مستقل - مثل جنوب أفريقيا - يجد نفسه على قائمة الاستهداف.

بناء عالم «ماغا» ("لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى")

تعكس الوثيقة أيضاً سياسات الإدارة اليمينية المتطرفة داخلياً، والتي تخدم بطبيعة الحال أهدافها الإمبريالية العامة.

فالدعوة إلى «عائلات قوية وتقليدية»، والاعتزاز بـ «أمجاد الماضي»، ورفض «جنون اليقظة تجاه التمييز العنصري»، تمثل ردةً ثقافية يمينية تهدف إلى تعميق انقسام الطبقة العاملة على أسسٍ عرقية وجندرية وقومية. وهي تغذّي القومية الشوفينية اللازمة لحشد الدعم لحروبٍ إمبريالية مقبلة.

وتأتي حملة الترحيل الإرهابية التي تقودها هيئة الهجرة والجمارك ضد العمال المهاجرين جزءاً لا يتجزأ من هذا المشروع.

ويقابلها عبر الأطلسي هدفُ الاستراتيجية المعلن «استعادة ثقة أوروبا بحضارتها وهويتها الغربية». وباستعارة أيديولوجيا التفوق الأبيض التي طالما استخدمها اليمين المتطرف داخلياً، يقول ترامب إن على أوروبا أيضاً أن تتوحد للدفاع ضد «محوٍ حضاري» - وهو ترميزٌ عنصري للهجرة.

وبالمثل، تعترف انتقادات الوثيقة لـ «الرهانات الخاطئة على العولمة» التي جوّفت الصناعة بالدمار الذي خلّفته النيوليبرالية، لكنها - بدلاً من تحديد ذلك بوصفه نتيجة إطلاق العنان للرأسمالية السوقية الحرة - تؤطّر نزع التصنيع على أنه «خطأ استراتيجي» فحسب. والحقيقة أن السبب هو منطق الرأسمالية نفسها، في مرحلتها الإمبريالية، الساعية إلى تعظيم الربح عبر التعهيد الخارجي، والتمويل (financialization)، وخفض الأجور.

وعليه، فإن انعطافة ترامب نحو الحمائية والحروب التجارية ليست رفضاً لهذا المنطق، بل محاولة لإعادة تشكيله في ظل ظروف أزمةٍ نظامية واشتداد المنافسة الاقتصادية العالمية.

لذا فإن الادعاء بـ «الانحياز للعامل الأميركي» ليس سوى مناورةٍ ساخرة. فسياساتٌ مثل الرسوم الجمركية و«إعادة توطين» الإنتاج تهدف إلى ربط شريحة من الطبقة العاملة الأميركية برأس المال «الوطني» في مواجهة بلدانٍ أخرى والعمال المهاجرين. كما تُستخدم مفاهيم «الكفاءة والاستحقاق» لمهاجمة سياسات التمييز الإيجابي، عبر تصوير اللامساواة على أنها «طبيعية» لإخفاء التناقضات القاسية للمجتمع الرأسمالي.

تقسيم العالم

تقدّم استراتيجية الأمن القومي الجديدة الأصول الأميركية - أكبر اقتصاد ونظام مالي وجيش في العالم - بوصفها «بركات طبيعية». غير أن هذه المزايا لم تولد «طبيعياً»؛ بل بُنيت على قرونٍ من استغلال الطبقات داخلياً، والعبودية، والنهب الاستعماري، والاستخراج العالمي.

فالاقتصاد «الأكثر ديناميكية في العالم» ديناميكيٌ تحديداً بسبب استغلاله الوحشي للعمل والطبيعة، في الداخل والخارج.

ويأتي هذا المخطط الإمبريالي في ظل حشدٍ عسكري أميركي خطير في الكاريبي، وضرباتٍ خارج إطار القانون، بما ينذر بتصعيدٍ عنيف في حملة تغيير النظام ضد فنزويلا.

وبعد أكبر شركاء الولايات المتحدة التجاريين المباشرين، كندا والمكسيك، ستكون دول أميركا اللاتينية أول من يجد نفسه في مرمى هذه الاستراتيجية الجديدة. فبسط السيطرة على هذه المنطقة يُنظر إليه من قبل الطبقة الحاكمة باعتباره مفتاح بناء مجال نفوذ أميركي متين - خطوةً نحو الاحتفاظ بالتفوّق العالمي.

إن بناء أقصى مقاومةٍ للعدوان الأميركي يتطلب تعزيز حملات التضامن الدولي مع فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وكولومبيا، ومع جميع البلدان التي تواجه وطأة هذا الهجوم.

ويتطلب ذلك كشف الجوهر الطبقي لشعار «أمريكا أولاً»، وتوحيد العمال وجميع قوى السلام ضد العدو المشترك: نظامٌ إمبريالي مأزوم يندفع نحو الحرب ومزيدٍ من الاستغلال في سعيه اليائس للحفاظ على الهيمنة.

وتصرّح الوثيقة بوضوح بأن هدف الحكومة الأميركية يجب أن يكون «الحفاظ على التفوق الاقتصادي وتوحيد نظام تحالفاتنا في كتلةٍ اقتصادية واحدة».

لصالح أي قطاعات ستُخاض هذه الحملة؟ انها تشمل «الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والحوسبة الكمّية»، و«التمويل»، و«النفط والغاز والفحم والطاقة النووية» - وهي من الصناعات الراعية التي صيغت استراتيجية الأمن القومي لخدمتها.

وعليه، لا يحتاج الأمر إلى كثيرٍ من القراءة بين السطور لربط استراتيجية الأمن القومي الجديدة لترامب بالتراجع الطويل الأمد في الميزة التنافسية للرأسمالية الأميركية.

وعلى الرغم من الادعاءات المتكررة بأنها «مؤيدة للعمال»، فإن هدف هذه الوثيقة - والحرب التجارية التي سبقت إعلانها -هو وقف وعكس تآكل قوة الشركات الاحتكارية الأميركية عبر بناء كتلةٍ مهيمنٍ عليها أميركياً.

ولا صلة لذلك بالمصالح الحقيقية للشعب الأميركي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• نُشر هذا المقال في صحيفة "عالم الشعب" الالكترونية التي يصدرها الحزب الشيوعي الأمريكي